رحيل سليم الحص خسارة أخرى للبنان

31 اغسطس 2024
+ الخط -

خسر لبنان في 25 أغسطس/ آب الجاري أحدَ أبرزِ رموزه السياسية والاقتصادية، رئيس الحكومة الأسبق والخبير الاقتصادي، سليم الحص، عن 94 عاماً. ومع أنّ الراحل اعتزل العمل السياسي منذ العام 2000، إلّا أنّ إشعاعه لم يخفت سوى في آخر سنوات عمره، مع تقدّمه في العمر واشتداد الأمراض عليه.

في العام 2006، صرّح "لقد اعتزلت العمل السياسي ولم أعتزل العمل الوطني"، وكان لبنان آنذاك يموج باضطرابات سياسية في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وما أعقب ذلك من انسحاب القوات السورية من هذا البلد، ونشوء فريقَي 14 آذار و8 آذار، على قاعدة الانقسام بين السياديين، ويمثّلهم الفريق الأول، ومناصري علاقات وثيقة للدولة اللبنانية خاصّة مع النظامَيْن السوري والإيراني. وقد حاول الحص التجسير بين الفريقَين، والحدّ من الخلافات بينهما، لكنّ محاولاته (ومحاولات غيره) لم تفلح في هذا الاتجاه. وشهد لبنانُ بعدئذ موجةَ اغتيالات طاولت رموزاً سياسيةً وفكريةً من فريق 14 آذار، أو شخصياتٍ ذات نزعةٍ تدعو إلى استقلال لبنان عن المحاور الخارجية، وكان من بين ضحايا تلك الموجة الكاتب الصحافي، والباحث سمير قصير، والأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الشخصيات السُنّية، والمسيحية.

وواقع الحال أنّ الحصّ ظلّ يتمتّع باحترام كبير لشخصه، حتّى من خصومه السياسيين ومنافسيه، لما عرف من تواضعه ونزعته الإصلاحية ونظافة يده، غير أنّه رغم ذلك دفع ثمن ما بدا أنّها انحيازات سياسية له كان ينكرها على الدوام. ففي تسعينيّات القرن الماضي، سطع نجم رفيق الحريري زعيماً سنّياً وطنياً، في عهد كلّ من رئيسي الجمهورية إلياس الهراوي وإميل لحّود، وإذ نشبت خلافات سياسية بين الحريري وكلٍّ من الأخيريْن، جعلته يغادر موقع رئاسة الحكومة غيرَ مرّة، فقد تقدّم آنذاك سليم الحصّ لملء الفراغ . وقد اشتدّ التنافس بين الرجلَين على صعيد الانتخابات النيابية، وأخذ الحريري يتقدّم في نيل ثقة الجمهور، في انتخابات 1996، في مقابل فوز قائمة الحصّ بمقعدَين أحدهما له شخصياً، والثاني لمحمّد يوسف بيضون، أحد أركان حركة أمل، الذي خرج منها لاحقاً. أمّا في انتخابات العام 2000، فلم تتمكّن قائمة الحصّ من انتزاع أيّ مقعدٍ، وهو ما حدا به إلى إعلان اعتزال العمل السياسي، مع استمراره عضواً قيادياً ناشطاً في هيئات مثل ندوة العمل الوطني، ومنبر الوحدة الوطنية، والمنظمّة العربية لمكافحة الفساد، والمؤسّسة العربية للديمقراطية، وصندوق العون القانوي للفلسطينيين، والمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى.

ظلّ سليم الحصّ سياسياً ومُفكّراً أقرب إلى نموذج القومي العربي الديمقراطي والتقدّمي

ظلّ سليم الحصّ سياسياً ومُفكّراً أقرب إلى نموذج القومي العربي الديمقراطي والتقدّمي، رغم أنّ سيرته المهنية والسياسية تخلو من الارتباط بأيّ حركة حزبية أو تيار سياسي بعينه، وقد صنّفه منافسوه وخصومه السياسيون قريباً من المحور الإيراني والسوري، وهو ما كان ينفيه، إلى درجة أنّه صرّح مرّة لصحيفة الرأي الأردنية في العام 2006 بأنّه لا يضع العامل الإيراني أو السوري في ذهنه على الإطلاق عند اتّخاذه قراراته السياسية، بينما يُدلّل منافسوه على أنّ نيلَه ثقةَ رئيسَي الجمهورية الهراوي ولحود ينبئ بقربه من هذا المحور. فيما ظلّ الرجلُ يشدّد على أنّه مستقلٌ ومن دعاة بناء الدولة، وأنّه عروبي التوجّه من غير ارتباط بالخارج. وما كان يقوله الحصّ عن نفسه، وما ظلّ يردّده منافسوه عنه، لا يخلوان من صحّة فيما يبدو، رغم تعارضهما. إذ كان الرجل يراهن على نزاهته وأخلاقيته وصموده أمام مُغريات التسلّط والنفوذ المالي، في سائر العهود، وفي ذلك يقول: "لا يزال المسؤول قوياً حتّى يطلب شيئاً لنفسه". ولم يُعرَف حقّاً عن الحصّ أنّه أصاب ثروةً طائلةً أو عاش حياةَ الترف، كحال مئاتٍ من السياسيين اللبنانيين، لكن يُعرَف عنه أنّه خدم مع عهود متسلّطة، ساعياً في الآن ذاته إلى ألّا ينزلق موقعه في رأس السلطة التنفيذية إلى التسلّط (خصومه يقولون إنّه أقال مرّة نحو 14 مديراً عامّاً، والمدير العام في لبنان هو المسؤول الثاني في الوزارة، لأنّهم كانوا مؤيديين للحريري، فيما قال هو إنّ الأمر كان في إطار مكافحة الفساد)، غير أنّ عديدين منهم برّأه القضاء. ومع ذلك، فإنّ وصفه بـ"الآدمي" (المستقيم) والحكيم، وضمير لبنان، لم يأت من فراغٍ، إلى درجة أنّ عبد الحليم خدّام، وهو من أبرز أركان النظام في سورية آنذاك، قبل أن ينشقّ عن النظام، وصف الحصَّ بأنّه "يصلح رئيساً للحكومة في السويد أو فنلندا، أمّا في لبنان فنحتاج إلى نوعية أخرى". ورغم أنّ الحريري كان "من نوعية أخرى" إلّا أنّه لم يحظَ بثقة دمشق، لأنّه يولي أهمّيةً خاصةً لعلاقات لبنان مع مصر ومع دول الخليج، وبالذات مع السعودية، إلى جانب علاقات وثيقة مع دمشق. والحاصل أنّ الحصّ طمح لأن ينقل بلده إلى مصافّ السويد أو فنلندا، لكنّه طموح اصطدم بصخور الطبقة السياسية الساعية إلى منافع شخصية وفئوية.

ظلّ الحصّ يتمتّع باحترام كبير، حتّى من خصومه السياسيين ومنافسيه، لما عُرِف من تواضعه ونزعته الإصلاحية ونظافة يده

لقد راهن طويلاً على النزاهة والعفّة السياسية، وعلى خدمة الجمهور والحدّ من الاستقطاب الطائفي، غير أنّه اصطدم بنزع الثقة عنه من الجمهور العريض في الانتخابات، وهو ما شكّل صدمةً للرجل، الذي لم يكن في الأصل طامحاً لدخول المعترك السياسي، وفي ذلك يقول إنّه دخل عالم السياسة بالصدفة، فقد انعقد طموحه على أن يكون خبيراً (تكنوقراطياً)، أو أستاذاً جامعياً، غير أنّ القدر دفع به لأن يتولّى حقيبةً وزاريةً في عهد إلياس سركيس، وذلك عندما تولّى وزارتَي الاقتصاد والإعلام تباعاً بين عامي 1976 و1979، وهي فترة صعبة من تاريخ لبنان، إذ كانت البلاد مسرحاً لحرب عنيفة بين الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في مواجهة حزب الكتائب وقوىً مسيحيةٍ ويمينيةٍ، ولعب حينذاك دوراً وُصِف بالاعتدال، ولم تكن تلك الحرب قد وضعت أوزارها حين تعرّض لمحاولة اغتيال في أوّل أيّام عيد الأضحى من العام 1984، حين قصد مقرّ المُفتي حسن خالد لتهنئته بالعيد، وقد نجا من هذه المحاولة (بعد خمسة أعوام على هذه الواقعة اغتيل حسن خالد في الموقع نفسه قرب دار الفتوى في غرب بيروت). هكذا، فإنّ مسيرة حياة الرجل العصامي رغم تقلّده أعلى المناصب لم تكن سلسةً هيّنةً، وثمّة أوجه شبه بين مسيرة حياته ومسيرة بلده، فقد ولد يتيم الأب، وعاش طفولته في ضنك شديد، وقد ثابر على التعلم حتّى نال الدكتوراه، رغم أنّ أسرته لم تكن شغوفةً بالتعليم، وقد اقترنت مسيرته في الحكم وزيراً ورئيسَ وزراء باضطرابات شديدة شهدها بلده. وفي 1990 فَقّد شريكة حياته ليلى فرعون، وهي سيّدة مسيحية أسلمت في آخر حياتها، وقد أنجب منها ابنةً وحيدةً هي وداد، ما أدخل الوحشة إلى بيته العائلي، قبل أن تشتّد المنافسة وتستعر بينه وبين منافسيه، وتدفعه إلى الاعتزال، إلى أن وافاه الأجل في أقسى الظروف التي يمرّ بها شعبه وبلده، و"انطفأت منارة جديدة في الزمن المظلم"، وفق ما نعاه سعد الحريري.

وإضافة إلى إرثه السياسي، ترك خلفه 16 مؤلفاً فكرياً نشُرت في حياته، وما لا يحصى من مقالات، ومن أصدقاء وتلاميذ في العالم العربي يحفظون عهد الرجل ويشهدون له بمناقبه.