في كتابه "فن القراءة"، الذي صدرت ترجمته العربية حديثاً عن "دار المدى" (ترجمة عباس المفرجي)، يتوقف الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل عند ثقافته الشخصية، لا ليستعرض مخزونها، بل ليشير بموضوعية و"حيادية" إلى الكتب التي تركت صوتاً فيه.
سلسلة المقالات التي يعرضها تقدّم لنا طيفاً متماسكاً وضرورياً لملكة القراءة وأبعادها، وتدلّ على رؤيا مانغويل العميقة في فهم الخرائط الثقافية والسياسية والاقتصادية التي نتمشى فوقها "مسرنمين". كتاب أشبه بصورة صوتية لتاريخ مانغويل في القراءة وخبراته، هو الذي، من بين كتّاب قليلين جداً، لا يريد تجاوز كينونته الأولى كقارئ.
إنه قارئ محترف، يكتب، آخذاً على عاتقه مهمة ترتيب مكتبة العالم، ومدِّ السلالم بين رفوفها. وهو اليوم، بسلطة الكلمات، يعيد إلى القراءة نقطة الثقل الأساسية في كل نشاط أدبي، ويمتِّن التوازن بين القارئ والكاتب.
ليست القراءة مجرد نشاط ذهني وفيزيولوجي يضع العقل في مقابلة واحدة مع التاريخ والثقافات المختلفة وقصص الآخرين البعيدة أو القريبة. إنه، بالنسبة إلى مانغويل، نشاط إنساني يضمن كينونتنا، ويكفل تمايزنا عن باقي الأصناف الحية. الإنسان، بحسبه، "حيوان قارئ". والقراءة هي الحقل السرّي والضروري في آن، الذي يعزز إنسانيتنا ويمكّننا من فهم مسؤولياتنا الفردية والسياسية والاجتماعية، والوقوف في شتى أوجه السلطة.
حين نقرأ قصة ما، فإننا نعترف بمدى تشابه قصتنا الشخصية بها. وهذا الاعتراف هو ما يوجّهنا نحو أنفسنا، إلا أنه أيضاً يرسم لنا أهميتين، الأولى تتعلق بسلطة الحياة، والأخرى بقوة الأدب نفسه.
وحين يسمح لنا الآخرون بالدخول إلى ممالكهم الفردية الصغيرة، والتفرج على معارك خاضوها، وملامستها، في ظروف وشروط لا تشبه بالضرورة شروطنا أو ظروفنا، فإن ذلك يدلنا على تشابه نماذجنا الإنسانية وتقاربها، بمنأى عن ثقافاتنا المختلفة.
هذا يعني أن القراءة تفضح صورة الإنسان المحدودة، وتشي بأن النموذج الأعلى مرتبة من باقي أجناس الحيوان، لم يتطور كثيراً، ولم يتمكن من الإفادة من التنوع الهائل الذي فرضه التاريخ والتحولات السياسية والحروب العظيمة. بل إن نزعات بدائية كالسيطرة والتفرّد والتملُّك وإلغاء الآخر، لا تزال تشكل العصب المحرك لسيرتنا الذاتية. وهو ما يجعل كل الحروب متشابهة، وكل اجتهاد تكنولوجي أو طبي، ساقط في قبضة المصلحة السياسية والابتكارات الحربية.
تؤلم مانغويل حقيقة أن ملايين البشر، اليوم، يدخلون الألفية الثالثة وهم غير قادرين بعد على فك الحرف. مع ذلك، فإن اجتهاده في الكتابة عن قراءته للكتب، يظل لافتاً. فبالكتابة وحدها يُدوَّن تاريخ هؤلاء التعساء الأميين، وبواسطتها فقط، تُحفظ الذاكرة الإنسانية من الضياع. صحيح أن الكتابة أيضاً هي الوسيلة الوحيدة التي يتم بواسطتها التزوير، لكنها تبقى دائماً عرضة للدحض أو التوكيد.