أطوار المقاهي من النارجيلة إلى الرصيف

28 أكتوبر 2014
مقاهي النارجيلة استعادة للماضي (Getty)
+ الخط -
هي حرب من نوع آخر، صراع غير مؤذٍ، منافسة مدنية - تجارية محمومة، تضمر صداماً حضارياً، سرعان ما يتحول إلى تلاقح مستدام. نشهد على هذا في معظم المدن العربية، خصوصاً منها تلك التي تتسم باندفاع تحديثي واستهلاكي، وتمتلك فضاءات عامة حيوية. سنجد ذلك في دبي والقاهرة والدار البيضاء وبيروت.

مقاهي النارجيلة

عندما تختار مقهى حديثاً، ذا ديكور "تراثي" يقدم النارجيلة، فأنت تختار مجتمعاً له أفكاره ولكنته، هو بالأحرى حديث الثراء، يحتفي بنفسه، يفتخر برفاهيته، ويتصف بانحيازه إلى صورة عن مجتمع أهلي حيث صلات القرابة والمصاهرة هي محور العلاقات، وتكاد تكون المسلسلات التلفزيونية التي تصنع فانتازيا "الماضي الجميل"، هي مصدر استيهاماته ومخيلته عن السعادة والعيش الهني.

في مقاهي النارجيلة الجديدة والمترفة، يبرز حضور "السيدات" الوقورات، ربات المنازل الثريات أو المتوسطات الحال، اللواتي اخترعن طقس "الصبحية"، التجمع الصباحي الخاص بهن، الذي ما كان ممكناً لولا اعتمادهن على الخادمات وانتشار دور حضانة الأطفال، فبتن هكذا حرّات من الواجبات المنزلية، يمتلكن أوقات فراغ مديدة، يقضينها في الاهتمام بجمالهن ورشاقتهن وتزجية الوقت تسلية واسترخاء.


رجال تلك المقاهي هم أيضاً يشعرون أنهم هنا يؤلفون رابطة وهوية من عِشرة وتلاقٍ حول علامات تراثية، طالما أن المقهى يتشبه بحدائق القصور وأحواش البيوت القديمة وأثاثاتها، وحتى الخدم يلبسون أزياء فلكلورية، وتبث في فضائه الفيروزيات والقدود الحلبية وما شابه.

هو مقهى حديث، طالما أنه ليس ذاك الذي يحظر على السيدات والفتيات دخوله، وهو حديث ومخترع بالكامل، إذ ليس له وجود في الماضي. لكنه في الوقت نفسه يسترجع النارجيلة وسينوغرافيتها، رمز الكسل المملوكي – العثماني. ومع هذا الاسترجاع رغبة جارفة بإحياء تقاليد وقيم وهويات يعاد تأليفها من كسور مخيلات وفنتازيات، استجابت لها تلك المسلسلات التلفزيونية "التاريخية"، التي تبث صوراً مطمئنة عن الذات الحضارية، منسجمة أخلاقاً ووجداناً مع مجتمع "الحارة" بقبضاياته وحريمه وأغنيائه.

هناك في مقهى النارجيلة الباذخ، تدغدغ مخيلة الرجال فيه صورة عن مجتمع أبوي وذكوري، متحصلين عبرها على إشباع للأنا، وعلى الرضا عن الذات. فهنا المكان أشبه بواحة في الزمن، طالما أنه، ولو توهماً، يفصلهم عن حقائق الزمن المعاصر، ويخفف من غربتهم الوجدانية المضنية التي يشعرون بها إزاء حاضر مضطرب استلابي وقاهر. النارجيلة اليوم، في مقاهي الترف تلك، كأنها وحدها كفيلة برتق صورة عن هويات ممزقة وذوات مأزومة، تماماً كما تفعل مسلسلات الاستشراق الأبله.

ما بدأ في التسعينيات باسم "الخيم الرمضانية"، التي أطلقت موضة تدخين النارجيلة بعد شبه انقراض وعممتها ذكوراً وإناثاً، والتي استفزت الإسلاميين، انتهى إلى تلك الصيغة من مقاهي النارجيلة "التراثية"، التي بصيغتها السياحية (الاستشراقية) أحيت أيضاً – وهذا من حسناتها – تقاليد مطبخية كاملة، إذ أعيد اكتشاف أصناف الحلويات والمآكل شبه المنسية، وتجددت بعض الصناعات اليدوية كأنواع الصحون الفخارية والسيراميك، بالإضافة إلى الصناعات الخشبية وتطريز الأقمشة.. إلخ.

لا بد من الإشارة إلى أن الفقراء لاحقوا هذا النموذج، فانتشرت النارجيلة في المنازل، وفُتحت حتى الدكاكين الصغيرة المختصة بخدمة توصيل النارجيلة إلى المنازل (الديلفري)، وصارت العائلات كما الشبان يحملونها معهم إلى الكورنيش والحدائق العامة.

بدا مقهى النارجيلة، في بيروت خصوصاً، الرد الحضاري المضاد لصيغة البوب (Pub) في السهر والتجمع واللقاءات الليلية. الهوية المحافظة بوجه الهوية الليبرالية العلمانية التي تجذب الأجيال الجديدة لا كأفكار واضحة لكن كأسلوب عيش واختلاط ومعاشرة، وطرائق لهو وبهجة ومتع ومسرات. وإن كان البعض يجمع بين بعد ظهر مقهى النارجيلة ومنتصف ليل البوب، إلا أن ذلك لا يكسر التباين بين المجتمعين المتفارقين، خصوصاً أن المقهى أقرب إلى أن يكون مكان الأهل وخيارهم، فيما البوب هو مكان الأبناء ومقصدهم.


ازدهار جديد لنمط مختلف

هناك في بيروت ودبي والقاهرة (ودمشق بين الأعوام 2000 و2011)، ازدهار استثنائي للحانة الحديثة (البوب). هي ثورة أو "بومينغ" لثقافة الكحول وطقوسها. المكان المفضل لأبناء الطبقة الوسطة والأثرياء والطلاب ورجال الأعمال الشبان (اليوبيز) والموظفين المدنيين والجامعيين والمثقفين وأبناء التربية المدينية، ذوي النفحة الليبرالية والميول اليسارية..إلخ. ففي بيروت وحدها يمكن تعداد شوارع برمتها هي أشبه بسلسلة لا عد لها من حانات السهر، تحتل أحياء كاملة كمثل وسط مدينة نيوأورلينز الشهير، أو كأحياء ومتفرعات شارع تقسيم في اسطنبول.

لعبت تلك الحانات أدواراً سياسية بالغة الأثر، إذ بها كان تأليف مجتمع شبان القاهرة الناشطين، الحريصين على استقلاليتهم وعلى تشرب قيم الديموقراطية والحرية والمساواة بين الجنسين والحريات الفردية.. إلخ. وهي اليوم ما زالت آخر بؤر "الثورة مستمرة" اعتراضاً على العسكر، كما كانت اعتراضاً على الإسلام السياسي.

وإذا كانت حانات ومطاعم دمشق في باب توما والقصاع، لعبت دوراً مختلفاً بعض الشيء، بوصفها صورة سياحية للترويج عن "انفتاح" النظام وبحبوحة مستجدة في المجتمع السوري، إلا أنها في حقيقتها كانت تمظهراً إضافياً للثراء غير المشروع، طالما أن كل هذه الاستثمارات السياحية كانت لزبانية النظام وحاشيته التي كانت تكدس الثروات المنهوبة، بل إن هذه الأماكن كانت مرتعاً لضباط النظام وأجهزته ومواليه والمنتفعين منه. كانت تلك الأمكنة وأضواؤها استفزازاً إضافياً لعموم السوريين.

على العكس من ذلك، شكلت حانات بيروت في العقدين المنصرمين، في شوارع المونو والحمرا ثم في الجميزة ومار مخايل وبعض أحياء الأشرفية، فضاء لالتقاء أجيال ما بعد الحرب وتعارفها واختلاطها وتجاوزها لانقاسامات الحرب وأهلها، ما أتاح بروز مزاج سياسي جديد وجريء، كان هو النواة المدنية للمعارضة السياسية ضد الاحتلال السوري، التي توجت بـ"انتفاضة الاستقلال" (2005).

وفي ما بعد، شكل هذا "المجتمع" الاعتراض الدائم ضد سياسات "حزب الله" وأخلاقياته، أو ساهم في تأليف جماعات المجتمع المدني المعترضة على النظام السياسي الطائفي. وهي اليوم المكان المفضل لجملة المنفيين السوريين المثقفين أو الذين كانوا ناشطين في الثورة. واستطراداً فإن الموالين للنظام من السوريين المقيمين في بيروت يفضلون مقاهي النارجيلة أو السهر في النوادي الليلة الصاخبة بالمغنين والراقصات، المترعة بالابتذال الكحولي والفني، على شاكلة أفلام المقاولات المصرية في الثمانينيات.


أي دور لمقاهي الرصيف؟ 

في السياق الكرونولوجي نفسه، حدث تحول خاص لـ"مقهى الرصيف". فجأة وفي فترة وجيزة نسبياً، بدأت مقاهي الرصيف بصيغتها الباريسية، الأوروبية عموماً، بالاختفاء. مقاه تاريخية شهيرة بوصفها أمكنة النخبة الصحافية والسياسية والأدبية، راحت تتوارى أو تنطفئ. فحتى تلك التي لم تغلق أبوابها نهائياً، هي اليوم كئيبة وشبه خاوية ومتهالكة، ومنسية.

لقد اختفت من مقدمة مشهد المدينة وصورتها. لم تعد هي الفضاء الذي يضج بحيوية الأفكار والسجال والنميمة المؤثرة، ومطرح الجواسيس والمخبرين والاعتراض السياسي وحلقات النقاش الأدبي والفكري. انتهى دورها كمكان للطامحين في "دخول المدينة" أو اكتساب شرعية الحضور السياسي أو الفني أو الصحافي أو الأدبي. ما عادت هي صانعة الشلة أو التيار أو الحزب الجديد، أو حتى مكاناً للقاء الأحبة والمواعيد الغرامية الأولى.

أسطورة مقهى الرصيف الذي يسقط حكومات أو يدبر الانقلابات أو يؤسس التيارات الأدبية أو يكتشف المواهب الجديدة.. صارت من الماضي.

بدلاً من ذلك، ابتدأ عصر مقهى الرصيف "الأميركي"، الذي جذب الجيل الجديد، إلى مشروباته الشديدة التنوع والمذوّقة. هنا الخدمة ذاتية، أرائك وثيرة وكنبايات واسعة وديكور شبه منزلي فخم، يحيل زبائنه إلى مثال المسلسل التلفزيوني "فريندز"، شبان أنيقون وشابات متحررات وجميلات وصداقات وأجواء مرحة، وحيث يوفر لك المقهى خدمة الأنترنت المجانية وحتى الطاولات العريضة الخاصة بمذاكرة الدروس الجامعية.

مقاه هي جزء من سلسلة عالمية واحدة تنتشر من طوكيو إلى نيويورك، مروراً بكل العواصم والمدن، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، تحمل المواصفات ذاتها والمعايير نفسها في جودة ونوعية خدماتها، ما يوحي لزبائنه الشبان بأنهم جزء من العولمة ومظاهرها وأنهم مواكبون وصانعون لزمنهم الحاضر ومنخرطون في قيمه وطرائق عيشه ومثالاته المعممة.

شبان وشابات تلك المقاهي "الأميركية"، هم أيضاً يؤلفون عبر خيارهم هذا وجداناً سياسياً جديداً، ترجم نفسه في أثناء "الربيع العربي"، إذ كانوا التيار الأكثر طليعية في ميوله المدنية والاعتراضية، وفي توجسهم العميق من الأحزاب السياسية والوجوه التقليدية وانقطاعهم عن الماضي. وعلى الرغم من ضعف أثرهم السياسي وعدم تمكنهم من التأثير الفاعل على الرأي العام العريض، إلا أنهم نجحوا في الفترة الأولى في رفع خطاب الحرية والديموقراطية لا كرطانة مبتذلة، لكن بلغة واضحة في التأكيد على حقوق المرأة مثلاً أو في محاربة الفساد أو في التشدد على مدنية الدولة والدستور، عدا عن إظهارهم للوعي البيئي وإتقانهم لأدوات وتكنولوجيات التواصل الاجتماعي ووسائط الميديا المتعددة، التي كان لها الدور الحاسم في مقارعة السلطات، أكان هذا في تونس أو القاهرة أو حتى صنعاء.

تلك كلها تحولات في فضاء المقهى بالمدن العربية، تظهر جزءاً من تقلب الأزمان واضطراب الهويات وتغير المدن وتصارع أهوائها.. ما قد يحتاج إلى كتابات أوسع وتمعن أعمق في ما يصيب أمكنتنا ومجتمعاتنا المتنازعة والمتصدعة من غير استقرار.
المساهمون