أسعار النفط وصراع القوى

23 ابريل 2020
سفينة نفطية ضخمة رتاسية على شواطئ سيدني (Getty)
+ الخط -


وصل جنون المضاربة على الأسواق حدوداً ما كان لأحد أن يصدّقها. وقد تابعنا يوم الاثنين الماضي تدحرج سعر النفط الخام في بورصة السلع الرئيسية (NYME) في شيكاغو في ولاية ألينوي الأميركية من نحو 25 دولاراً عند افتتاح السوق، ولكن كما تبين، هذا السعر غير مناسب لسببين: أن كميات النفط الفائض كبيرة جداً، ووصلت إلى 1.8 مليار برميل، وأن مخزون النفط عالمياً قد غطى تغطية شبه كاملة. 

لذلك، جنّ جنون المضاربين، وانخفض سعر النفط وتهاوى، حتى وصل إلى أدنى سعر وصل أو يمكن أن يصل إليه إلى سالب 37 دولاراً للبرميل. بينما بقي سعر خام برنت والنفط العربي أعلى من 20 دولاراً للبرميل الواحد.

لمّا اجتمع منتجو النفط الكبار عَبْر التواصل الإلكتروني في أوائل هذا الشهر (إبريل/ نيسان 2020)، تفاءلت الأسواق بقرار تخفيض إنتاج النفط بمقدار عشرة ملايين برميل يومياً.

وفِي اليوم الثاني، ارتفعت الأسعار فترة، ثم ما لبثت أن خرجت تحليلات، خصوصاً من جراء السوق في الولايات المتحدة، أن هذا التخفيض لن يجعل النقص في الكميات المعروضة مكافئاً للتراجع في الكميات المطلوبة. وعاد النفط مرة أخرى إلى الانخفاض.

وفِي مطلع الأسبوع الماضي، أخبر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من خلال مؤتمره الصحافي، أن شركة أميركية، واسمها جيلياد، قد اكتشفت دواءً للإصابة بمرض فيروس كوفيد – 19، اسمه Remdesvir، فارتفعت أسعار النفط.

وبعد يوم، قيل إن لدى الولايات المتحدة وبعض الدول مخزوناً كبيراً من الخام الأسود، وإنها ليست بحاجة لتغذيته، وإن الدواء لن يرخص وينتج إلا بعد أشهر، عادت الأسعار إلى الهبوط. وحتى ظهر يوم الاثنين الماضي كان سعر النفط الأميركي WTI في حدود 25 دولاراً للبرميل وخام برينت 27.3 دولاراً.

وظهرأمس الأربعاء تراجعت العقود الآجلة لخام برنت تسليم شهر يونيو/ حزيران بنسبة 11.05% ليصل إلى 17.72 دولاراً للبرميل. بينما تراجعت أسعار العقود الآجلة للخام الأميركي غرب تكساس الوسيط تسليم يونيو/ حزيران بنسبة 0.7% أو 12 سنتاً إلى 11.4 دولاراً للبرميل.

وقد بدأت المطالبات بتخفيض الإنتاج النفطي مرة ثانية إلى خمسة ملايين برميل يومياً على الأقل. ويرى محللون أن أي تخفيض يقلّ عن عشرة ملايين برميل يومياً لن يجدي في رفع الأسعار إلى نسبة تعوض المنتجين عن النقص في الكميات المنتجة والمباعة. وهناك من هو مقتنع بأن فيروس "كوفيد – 19" لن يسمح بارتفاع أسعار النفط إلى أن تتم السيطرة عليه بالكامل.

ولكن يجب أن ندخل إلى التحليل اعتبارات أخرى. ففي الأردن، مثلاً، تكونت قناعة لدى الملك عبد الله الثاني بضرورة تعزيز المخزون النفطي في الأردن، لاستثمار فرصة هبوط النفط، حتى تستطيع الحكومة أن تبقي أسعار المشتقات النفطية الأردنية عند مستواها الحالي المريح لمستهلكين كثيرين، على الرغم من أن أسعار المشتقات النفطية تقرّرها الحكومة وليس السوق.

وإذا حَذَت دول كثيرة حذو الأردن، فإن الطلب على النفط قد يتحسن مدة من الزمن.
لكن السؤال الذي يستحق إجابة مقنعة: هل تعكس الأسعار المعلنة للنفط الخام واقع الأسعار المتداولة فعلاً في عمليات الشراء والبيع؟

طبعاً أُقرّ وأعترف بأن هنالك وسائل وطرقاً لرصد الكميات والأسعار. ولكن كم من الكميات تباع في الأسواق غير الرسمية، خصوصاً في ظل العقوبات المفروضة على دول بحاجة ماسّة إلى الإيراد النفطي؟ ومع أن بعض هذه الدول أعضاء في منظمة أوبك، ولكن الحصار المفروض عليها يحرمها فرصة البيع.

لذلك، تبيع خارج إطار السوق. وليس عندي شك في أن كثيراً من النفط المحمول على الناقلات الضخمة في بحر العرب والبحر المتوسط أو المحيطات يُشترى بأسعار زهيدة من دول بحاجة ماسّة لذلك، ومن الصعب تقدير هذه الكميات بدقة.

وحيث إن السوق النفطية في الوقت الحالي حسّاسة جداً بسبب تراجع حجم البيع فيها، فإن كميات النفط المعوّمة مكاناً وسعراً لها تأثير واضح بالأسعار، علماً أن معظم التحليلات في دور الخبرة لا تركز على هذه النقطة، أو بالكاد نشير إليها.

ولكن، على الرغم من تسخين الرئيس دونالد ترامب جبهته مع الصين، واتهامه إياها بتخليق فيروس كوفيد - 19 في مختبرات في مدينة ووهان، ولومها على أنها لم تكن شفافة في بدايات انتشار الوباء في الصين، إلا أن ما يجري حالياً في أسواق النفط يضرّ بضاعة النفط الأميركية، ويفيد الاقتصاد الصيني. ولعل حرص الرئيس الأميركي على فتح الأسواق والسماح للناس بالحركة مدفوع برغبته في تشغيل الاقتصاد، وكذلك في إعادة زخم الطلب على المشتقات النفطية لرفع أسعار النفط الخام.

وليس من المستبعد أن يكون سعي الرئيس الأميركي في إحداث التوتر مع الصين، سواء لأسباب حقيقية أو مُختلقة، هو لإحداث فوضى أو تشويش في أسواق النفط الخام، وأسواق السلع الرئيسيّة، وأسواق العملات والبورصات، لكي يزيد الطلب أكثر على الدولار في ظل تصفير أسعار الفوائد على ودائع العملة الأميركية، واكتساب العملة الصينية (اليوان) قيمة متزايدة بوصفها عملة احتياطية دولية، ولكي يُحدث طلباً ناتجاً من الرعب من احتمالات الحرب، تدفع الدول إلى تخزين النفط إلى أكبر قدر ممكن مما يرفع أسعاره.

ومع ثقتي بأن للتوتر الأميركي الصيني أهدافاً أخرى، إلا أن الجوانب الاقتصادية تبقى لها أهمية كبرى في خيار الحرب أو السلم. وتدل النتائج على أن الصين ستخرج في وضع أفضل نسبياً من الولايات المتحدة، بعد نهاية أزمة كورونا، ولكن هل سيسمح المحافظون وقطاعاتهم الاقتصادية بذلك؟ هذا سؤال نتركه لقادم الأيام.

شهدت أسواق النفط يوم الاثنين الماضي حالة جنون تذكّر العالم بكيف يمكن أن تتهاوى الأسواق، وتتبدّل الأرزاق، وتنقلب الثروات إلى رماد ما بين غمضة عين وارتدادتها. عالم مجنون حقاً.
المساهمون