أساطير قرطاج في نسختها الإسلاميّة

08 نوفمبر 2015
(تونس: دار الأطلسية، 2015)
+ الخط -
لصناعة التاريخ، حسب التصوّر الخلدونيّ، دعامتان هما الإخبار والاعتبار. إحداهما ظاهره الذي لا يزيد عن ذكر الوقائع والأخرى تدبّر ونظر وتعليل بحثا عن الحكمة. ولئن كان الاعتبار عملا تأويليا يبحث عمّا يقع وراء تفاصيل الأيّام والأعمال وما يشدّها من منطق، فإنّ الخبر وما يقتضيه من تدقيق وتحقيق يظلّ، كما نقول اليوم عن الصحافة التي تؤرّخ للحظة، "مقدّسا". بيد أنّ سلوك المؤرّخين العرب وتعاملهم مع تاريخ قرطاج، واسمها عندهم قرطاجنّة، يثير من الناحيتين الخبريّة والـتأويليّة مشاكل جمّة تصدّى لها الباحث في تاريخ الفنون والآثار الإسلاميّة فوزي محفوظ بالدّرس والتحليل. ففي كتابه "أساطير قرطاجنّة في عيون المؤرّخين العرب" (صدر عن كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة، ودار الأطلسية، تونس، 2015، 242 صفحة)، يكشف خصائص الرواية التاريخيّة التي صنعها المؤرّخون العرب رغم النقص الفادح في معارفهم التاريخيّة عن قرطاج. وهو مثال جيّد عن كيفية كتابة التاريخ في غياب المعطيات الكافية والضروريّة من الأخبار والآثار والشواهد. فتنقلب حكاية التاريخ بوقائعه إلى بناء لأسطورة تستدعي المجهول إلى فضاء المعلوم.

خرائب قرطاج
تصادف الفترة الوسيطة التي فتح فيها العرب أفريقيا تحوّل قرطاج بمجدها الأثيل إلى قرية صغيرة خربة تمثل منطقة زراعيّة في ضواحي مدينة تونس. فقد فقدت دورها السياسي القديم بداهة بسقوط الدولة البيزنطيّة بعد الفتح العربيّ وفقدت بالخصوص مركزيّتها في المجال الأفريقيّ ودورها التجاريّ. ولم يتبقّ منها، علاوة على تاريخها المجيد، إلاّ الآثار والرخام.

ورغم الطفرة العلميّة التي شهدها التأريخ لقرطاج بعد الحفريّات الأثريّة التي كشفت معطيات عن المدينة في العصور البونيّة والرومانيّة والونداليّة والبيزنطيّة، فإن الفترة الإسلاميّة تكاد تكون مجهولة. فالكتابات في هذه الفترة التي امتدّت على عشرة قرون شارك فيها المؤرّخون والجغرافيون والإخباريون والفقهاء... إلخ. من مختلف بلاد الإسلام. بيد أنّ المفارقة تكمن في أنّ قيمة قرطاج التاريخيّة لم تشفع لها في وضع مؤلف خاصّ بها، فظلّت الكتابة عنها موجزة مختصرة. فكأنّ حالة الخراب التي كانت عليها في الفترة الإسلاميّة جعلتها غير جديرة بتأليف خاص. ووراء هذا سبب آخر جعل أهمّ المؤرّخين العرب كالطبريّ والبلاذريّ واليعقوبيّ لا يشيرون إليها ولو مجرد إشارة. فهي مدينة بعيدة عنهم واطّلاعهم عليها محدود لقيام صناعتهم على النقل.

الفاطميّون وقرطاج
ولما قامت الدولة الفاطميّة التي حوّلت أفريقيا من هامش تابع للمشرق إلى مركز خلافة بعاصمتها المهديّة، مدّت نفوذها إلى مصر وبلاد الشام وصار لها مؤرّخون وجغرافيون انكبّوا على الاهتمام بقرطاج. والواقع أنّ وراء هذا الاهتمام إعجابَ الخلفاء الفاطميّين بالحنايا الرومانيّة التي شيّدت لجلب الماء، على ما يروي القاضي النعمان في "المجالس والمسايرات"، إذ رغب الفاطميّون في بناء حنايا على منوالها. وتروي المصادر أنّ عبيد الله المهديّ مرّ بقرطاج قبيل بناء مدينة المهديّة فاندهش لمعالمها الفاخرة وروعتها وتساءل عن بانيها أملك واحد أم أكثر؟ وكيف أمكن لدولة على هذا القدر من القوّة أن تزول؟

ولكنّ البحث عن أفول قرطاج ودواعيه كان مستحيلا على المؤرّخين أن يجيبوا عنه لغياب المعطيات التاريخيّة السابقة للفترة الإسلاميّة. فقد كانت دارا من ديار المسيحيّة، بعد الفتح العربي أهملت تماما وخرجت عن مجال التمدّن.

وفي بداية فتح أفريقيا أوائل القرن السابع للميلاد، كانت قرطاج مركز الحكم البيزنطي ولا سبيل إلى فتح أفريقيا دون الاستحواذ عليها لرمزيّتها السياسيّة والدينيّة والعسكريّة. وقد استطاع حسّان بن النعمان، بعد حملة أولى فاشلة، إخضاع المدينة، فزال الوجود البيزنطي بأفريقيا ومعه اضمحلّت المسيحيّة تدريجيّا، فأصيبت قرطاج بدمار كبير تبعه إهمال.

أسطورة التأسيس
يَبرز في الكتابات التاريخيّة العربيّة غياب أسطورة تأسيس قرطاج وما شهدته في الفترة البونيّة الأولى. فمن المعلوم أنّ تأسيس قرطاج ارتبط بأسطورة عن دهاء الملكة عليسة (ديدون) عندما قدمت من صور، بلبنان، فرحّب بها الأهالي واشترت قطعة أرض على مقاس جلد ثور بَنتْ عليها المدينة.

بيد أنّ المؤرّخين العرب لم تصلهم هذه الأسطورة المتداولة في الكتابات الرّومانية عن قرطاج. والسبب في ذلك هو انقطاع الأسانيد لجهل المؤرّخين العرب، حسب المؤلّف، باللّغات القديمة، خصوصا منها اللاتينيّة. ورغم ذلك، استطاع المؤرّخون الأندلسيّون أن يقدّموا قصصا عن الحروب البونيّة الرومانيّة التي لا أثر لها في كتابات المشرقيّين. وهذا دليل على اطّلاع الأندلسيّين على بعض الكتابات التي وضعت باللاتينيّة، إمّا مباشرة أو من خلال تعريبها. من ذلك أن كتاب هروشيوس المولود في نهاية القرن الرابع للميلاد قد ترجم إلى العربيّة. وهو كتاب لا يخلو أيضا من أخطاء وتحريفات.

إعادة صياغة الأسطورة
وعلى أهميّة الكتابات الأندلسيّة بنقائصها وإيجابياتها، فإنّ أطرف ما في كتابات المؤرّخين العرب ما وضعوه من قصة لتأسيس قرطاج لا تخلو من دلالة (عبرة!).

فحسب الرّقيق القيرواني، بنى قرطاجنّة قوم من بقيّة آل عاد الذين هلكوا بالريح وظلّت بعدهم خرابا ألف عام، إلى أن جاء "الزبير بن لاود بن ثمود الجبار"، وسنُّه سبعمائة عام (كذا!)، فأعاد بناءها على النّمط الأول وزاد عليها. وتوافق الفترة التي صنعت فيها هذه الأسطورة فترة حكم الفاطميين. وأهمّ ما في هذه الرواية أنّ علامة خراب قرطاج هي "ظهور الملح فيها". ولعلّ هذه هي الإجابة التي طلبها عبيد الله المهديّ.

وإذا كانت الإحالة القرآنية على آل عاد وثمود بيّنة في أسطورة التأسيس الإسلاميّة، فإننا نجد ما يدعمها لدى المؤرّخين العرب في حديثهم عن "بحر رادس" (وهو خليج تونس اليوم). فقد كان ملك قرطاجنّة (ويسمّى عند المؤرّخين العرب الجلند)، يعتدي على السّفن التي تمر ببحر رادس، فاعترضه النبيّ الخضر وقتله. وفي هذا الموضع القريب من تونس، فارق الخضر النّبيّ موسى. ولا يخفى على العارف بالقرآن أنّ هذه الحكاية مستوحاة من قصّة لقاء موسى بالخضر (سورة الكهف، الآيات من 60 إلى 82). ولئن كان القصص القرآني لا يذكر موضع افتراقهما، فإنّ المفسّرين اعتبروا أنّه بحر رادس والملك المعني هو الجلند. وعلى هذا، فإنّ الأحداث، أسماءَ أعلام وأقوام من القرآن، إنّما تحمل وراءها جملة من القصص القرآنية التي تعرض بالاعتبار.

والأهمّ من ذلك أنّ صلة أسطورة قرطاج هذه بالنصّ القرآني ومرويّاته عن الأقدمين تجاوزت مجال الجزيرة العربية لتدرج المدينة ضمن رؤية إسلاميّة. والحاصل من هذا هو تعريب تاريخ قرطاجنّة لتندمج في نسق المدن التاريخيّة الكبرى بجعل مؤسّسيها عربًا وملوكها وشعبها ولغتها من العرب أيضًا.

ونجد علاوة على تعريب تاريخ قرطاج، إدراجا لها ضمن الرؤية الإسلاميّة للتاريخ الكونيّ من خلال المكوّنات الخطابيّة التي يوفّرها القصص القرآنيّ. وبهذا نفهم تفسيرهم لعظمة آثار قرطاج وضخامة معالمها بعظمة بُناتها الجسمانيّة وضخامتهم من خلال ذكر قوم عاد أو العمالقة.
وداخل هذه الرؤية القرآنية يصبح تفسير أفول قرطاج وتحوّلها إلى خرائب مفهومًا عند المؤرّخين العرب. فدمار قرطاج مصداق للآيات التي تجعل هلاك القرى عقابا إلهيّا على فسق أكابرها وإجرامهم وظلم أهلها.

ومن الطّبيعي في هذا النّسق السّردي الباحث عن العبر والمواعظ ألّا نجد في كتابات المؤرّخين العرب عن قرطاج تحديدًا زمنيّا لواقعة ولا تدقيقًا جغرافيا لموقع. فالعبرة من القصص تجعل ضبط الأحداث زمنيّا أمرا ثانويّا والأساطير تزيل الحدود الجغرافيّة. فما وقع في حقيقة الأمر إنّما هو تعويض انقطاع السّند التّاريخيّ الإغريقيّ واللاّتينيّ بسند عربيّ إسلاميّ مكّن المؤرّخين من إدراج تاريخ قرطاج في نسق الحضارة العربيّة المشرقيّة.

وممّا يسّر هذا التّعويض أنّ السّؤال المحوريّ الذي شغل المؤرّخين لم يكن متّصلاً بالواقع والأحداث بقدر ما ارتبط بتفسير زوال حضارة عظيمة مثل حضارة قرطاج، فجاءت الإجابة عن هذا السّؤال محكومة بالإطار الذّهنيّ والمعرفيّ الإسلاميّ العام. فغلب بذلك الاعتبار على الإخبار، بل قل لم يعد للخبر في ما كتبه المؤرّخون أيّة قيمة.

جهل أم تجاهل؟
إنّ هذا الكتاب، على طرافته في الكشف عن خطاب تاريخي لم يُدرس بعد، يظلّ محيّرًا في تفسيره لهذا القصور المعرفيّ لدى المؤرّخين العرب عن استيعاب التّاريخ السّابق للإسلام. فلئن كنّا نتفهّم اتّصال الأندلسيين بالسند التاريخيّ اللاّتينيّ، فإننا لا نعرف مدى استفادة المؤرّخين الأندلسيين من الوقائع والأحداث الواردة في الرواية التاريخيّة الغربيّة.

والأمر الثاني الذي ظلّ محيّرا في الكتاب يتعلّق بالمصادر الإغريقية. فجهل المؤرّخين العرب بها بيّن في ما أورده الباحث. ولكنّ السّؤال القائم هو: لماذا رغب العرب الذين ترجموا الكثير من كتب اليونان عن ترجمة كتبهم في التاريخ حيث يجدون معطيات أساسيّة في تاريخ قرطاج؟

فهل هو جهل بالمصادر الغربيّة، الإغريقيّة واللاتينية، أم هو انعدام للحاجة الثقافيّة بما جعل المؤرّخين العرب يتجاهلون تلك المصادر لأنّ التاريخ عندهم يظلّ صناعة مقصدها الاعتبار، وهو باطن التاريخ، مهما تغيّرت الأحداث والوقائع والأيّام والأعمال؟

(أكاديميّ وروائيّ تونسي)
المساهمون