تواجه السلطة الفلسطينية أزمة خيارات حادة بعد اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس "عاصمة" لإسرائيل، خصوصاً على صعيد خياراتها السياسية، سواء على صعيد مستقبل علاقتها بحكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، أو على صعيد أنماط تعاطيها مع الساحة الداخلية الفلسطينية.
فقرار ترامب لم يسدل الستار على فرص حل الصراع سياسياً فقط، بل إنه جعل البرنامج السياسي لرئيس السلطة، محمود عباس، الذي يقوم على المفاوضات، غير ذي صلة بالواقع. وقد باتت القيادة الفلسطينية مطالبة بتحديد مسار آخر لنمط العلاقة مع تل أبيب في ظل انسداد الأفق السياسي على هذا النحو. وعلى الرغم من أن الخطاب الذي ألقاه عباس، بعيد إعلان ترامب قراره، قد خلا من أي التزام بالإقدام على أية خطوة تشكل تحدياً للعلاقة مع إسرائيل، إلا أن قرار الرئيس الأميركي، مع ذلك، دفع نحو ردات فعل جماهيرية فلسطينية واسعة قد تفضي إلى مواجهات كبيرة مع قوات الاحتلال، بشكل يستدعي من قيادة السلطة اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبل العلاقة مع تل أبيب.
فيمكن أن تتحول الاحتجاجات الجماهيرية إلى مواجهة شاملة، قد تسمح أيضاً بعودة العمليات الفردية، أو تلك التي تنفذ على خلفية تنظيمية. ومما لا شك فيه أنه في حال تحقق هذا السيناريو فإنه سيمثل اختباراً لمستقبل التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وإن كانت قنوات التلفزة الإسرائيلية قد أكدت أن التعاون الأمني بين الجانبين في أوجه، حتى بعد إعلان ترامب قراره، إلا أن انفجار الأوضاع الأمنية سيجعل من الصعب على قيادة السلطة مواصلة هذا النمط من التعاون. وعلى الرغم من أن قادة الأمن الإسرائيلي عادة ما يقرون بدور تعاون السلطة الفلسطينية الأمني في ضمان الهدوء في الضفة الغربية، فإنه في حال اضطرت السلطة لوقف التعاون الأمني، تحت ضغط الشارع الفلسطيني، الذي ستفاقمه ردة فعل الإسرائيلية القاسية المتوقعة على الاحتجاجات الفلسطينية، سيؤدي إلى اتساع دائرة المواجهة بشكل قد يدفع إسرائيل لإجراءات عسكرية تعيد للأذهان عملية حملة "السور الواقي" التي شنها جيش الاحتلال في فبراير/ شباط 2002، وقام خلالها بإعادة احتلال كل مدن الضفة الغربية وبلداتها. وفي حال وصلت الأمور إلى هذا الحد، فإن هذا يعني عملياً سقوط السلطة الفلسطينية، مع ما قد يترتب على هذا التطور من تداعيات داخلية وإقليمية.
من هنا، فإن هناك ما يدلل على أن الإدارة الأميركية، وقبل أن يعلن ترامب قراره، قد احتاطت لهذا السيناريو، وقامت بتنسيق هذه الخطوة مسبقاً مع دول عربية، بحيث أن دور هذه الدول لا يقتصر فقط على منح الضوء الأخضر لترامب، بل أيضاً يتمثل في بذل جهود لإقناع القيادة الفلسطينية بعدم السماح بخروج الأوضاع عن السيطرة. وكشف وزير الاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في مقابلة مع قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة أول من أمس، أن الإدارة الأميركية نسقت مسبقاً مع بعض الحكام العرب لضمان أن يمارسوا نفوذهم لدى الجانب الفلسطيني لاحتواء ردات الفعل الفلسطينية. وقد نقلت القناة نفسها أيضاً عن مسؤول كبير في البيت الأبيض تأكيده لما صدر عن كاتس. وفي حال صح ما ورد على لسان المسؤولَين، الأميركي والإسرائيلي، فإن النظام الرسمي العربي سيضغط على قيادة السلطة لضمان عدم انفجار الأوضاع بشكل قد يحرج الحكومات العربية أمام شعوبها، ويحرج ترامب أمام منتقديه في الداخل، الذين حذروا من تداعيات قراره.
من ناحية نظرية، يفترض أنه بإمكان السلطة أن تقدم على إجراءات قانونية ودبلوماسية ضد إسرائيل، تضفي صدقية على وجود السلطة كممثل للشعب الفلسطيني، مثل التحرك بشكل جدي لرفع دعاوى ضد إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية، أو تفعيل طلب الحصول على اعتراف دولي بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهي الإجراءات التي تتردد قيادة السلطة في الإقدام عليها بسبب الضغوط الأميركية. مع العلم أن الكونغرس والإدارة الأميركية هددا بقطع المساعدات المالية عن السلطة في حال توجهت للجنايات الدولية. ومن الواضح أن قرار ترامب لن يؤثر على نمط العلاقات الفلسطينية الداخلية، ولا سيما في كل ما يتعلق بفرص تطبيق اتفاق المصالحة، إلا في حال اشتعلت مواجهة شاملة مع الاحتلال، تقلص هامش المناورة أمام الأطراف التي تتلكأ في تطبيق الاتفاق.