أزمات صحافة السودان: "يا حرية يا بعيدة"

04 يوليو 2014
أزمة ثقة بين القارئ والصحف (أشرف شاذلي/فرانس برس/Getty)
+ الخط -
"كلام جرايد" هي العبارة الأكثر تداولاً في الشارع السوداني عند التشكيك في صدقية أي خبر. وهو ما يبدو طبيعياً بعد سلسلة النكسات التي تعرّض لها العمل الصحافي في البلاد، والتي وضعت صدقيّته على المحكّ.
وأبرز هذه الامتحانات كانت تغطية التظاهرات، التي انطلقت في أنحاء مختلفة من السودان في سبتمبر/ أيلول الماضي، للاحتجاج على زيادة أسعار المحروقات، مما أدى إلى مقتل وإصابة المئات.

لكن أزمة الثقة ليست أزمة الصحافة الوحيدة، إذ إن المعاناة الاقتصادية، التي يعيشها السودان منذ انفصال الجنوب، وبالتالي خسارة الإيرادات البترولية، انعكست بشكل مباشر على الصحافة، التي بدأ الخناق الاقتصادي يشتد حولها.

هكذا لجأت الصحف إلى محاولة الخروج من هذه الأزمة، فرفع بعضها سعر المطبوعة بنسبة مائة في المائة، وأخرى 75 في المائة، إلى جانب تقليص عدد العاملين فيها من صحافيين وفنيين، فيما اختارت أربع صحف أخرى الإقفال النهائي بسبب عجزها عن تأمين الحد الأدنى من مصاريفها. بهذه البساطة وجد مئات الصحافيين أنفسهم عاطلين من العمل، فهجر بعضهم المهنة نهائياً، فيما غادر آخرون البلاد للبحث عن فرص عمل أفضل.

هل قلت حرية؟

يحل السودان في المراتب الأخيرة في موضوع حرية الإعلام. وهو ما تؤكده تقريباً كل التقارير الدولية، فالحكومة السودانية تضيّق على كل الصحف من دون استثناء. وللرقابة في السودان أشكال عدة، أشهرها الرقابة المباشرة، اذ يأتي ضابط من جهاز الامن ليلاً ويطّلع على جميع المواد التي ستنشر، إلى جانب الرقابة المسبقة، التي تفرض على صحف معينة. وتعلم كل المطبوعات عن وجود رقابة غير مباشرة، وخطوط حمراء لا يمكن تخطيها. وفي حال المخالفة، تتم مصادرة الصحف بعد طباعتها، وهو ما يلحق خسائر اقتصادية كبيرة بها، بل قد يذهب جهاز الرقابة أبعد من ذلك فيوقف صحافيين عن الكتابة. وآخر هذه الحالات إيقاف رئيس تحرير "الصحافة"، النور أحمد النور، عن ممارسة مهامه كرئيس تحرير. وهدد الجهاز بإقفال الصحيفة في حال خالفت القرار.

وفي إطار التفنّن بأساليب القمع، سمحت الحكومة لكل ولاية سودانية بإنشاء محاكم خاصة بالصحافة. وبسرعة فائقة، استجابت الولايات، فمثلاً محكمة ولاية الجزيرة (تبعد 160 كلم عن السودان) تنظر يومياً في قضايا ترفعها الحكومة ضد الصحافة هناك.

أكثر الأنظمة قمعاً

العلاقة المتوتّرة بين السلطة والحكومة في السودان، تبدو أكثر من نتيجة طبيعية في أي نظام دكتاتوري. هذا ما يؤكده عميد الصحافة السودانية، رئيس تحرير صحيفة "الأيام"، محجوب محمد صالح، فيقول إن "الإعلام مرتبط بالوضع السياسي في البلد، والحريات ترتبط بالنظام القائم سواء كان دكتاتورياً أو ديمقراطيا". ويضيف أنه "في كل مرة يفتح الباب أمام إعلام حرّ في السودان، يقع انقلاب، وتتكرر مسرحية القمع، وهو الأمر الذي يغيّب أية إمكانية للاستقرار المهني والصحافي".

محجوب عاصر كل الأنظمة، منذ الاستعمار الإنكليزي ـ المصري يوم لعبت صحيفته "الأيام" دوراً بارزاً في تحقيق الاستقلال، وصولاً إلى كل الأنظمة التي حكمت بعد الاستقلال. ومن خلال العمل الصحافي في كل هذه السنوات يؤكد "لم أر نظاماً أسوأ من النظام الحالي مرّ على الصحافة".

إذاً المشهد كله يبدو مأساوياً، فغياب الحريات لا ينعكس فقط على أداء الصحافيين، الذين يعملون في أجواء من الخوف المتواصل، بل إنه ينسحب على مضمون الصحف، وبالتالي على إقبال القراء على شرائها بسبب غياب الثقة. "كل الصحف باتت نسخة واحدة متشابهة، بعيدة عن هموم المواطن"، يقول عضو "مجلس الصحافة والمطبوعات"، النور احمد النور.

وبالأرقام يبدو تراجع الصحف واضحاً: انخفضت نسبة توزيع الصحف السياسية 32 في المائة، والرياضية 50 في المائة، والاجتماعية 13 في المئة. ونتيجة هذا التدهور يرى النور، ان الحل هو رفع الحكومة يدها عن الصحافة والإعلانات التي توزّع على الصحف على أساس سياسي.

خيبة

لعل تجربة الصحافيين الشباب هي الأكثر تعبيراً عن حال الصحافة في السودان. فلا يخفي الصحافي، أنس يس، صدمته من الواقع، بعدما دخل هذا العالم أملاً في خدمة المجتمع: "صدمت بالحقيقة وبالكبت والبيئة المتردية للعمل الصحافي، وهو ما جعلني أفكر بالهجرة لتحقيق طموحي الصحافي". ويروي قصصاً لا تنتهي عن منع نشر مقالات عدة له، لسبب واحد: الخوف من السلطة.
المساهمون