ثلاثة صحافيين من غزة: هكذا نعمل رغم استشهاد الزملاء

22 يوليو 2024
في وداع الصحافيين الشهيدين سعدي مدوخ وأحمد سكر، يوليو 2024 (الأناضول)
+ الخط -

عشرة أشهر وجحيم الصحافيين الفلسطينيين في قطاع غزة متواصل. فبين العمل تحت القصف، وفي ظل نقص المعدات، وشحّ المواد الغذائية، وتدمير البنية التحتية، يبدو كل يوم في غزة، مغامرة جديدة للنجاة وتفادي آلة القتل الإسرائيلية. إذ يواصل الصحافيون في قطاع غزة تغطيتهم لحرب الإبادة المستمرة منذ السابع من أكتوبر، على الرغم من فقدانهم لـ161 صحافياً وعاملاً في وسائل الإعلام، ورغم الظروف القاسية المحيطة بالتغطية والتي لا تُحتمل ويصعب التأقلم أو حتى التعايش معها.
وعلى الرغم من الممارسات الإسرائيلية بحق الصحافيين الفلسطينيين الذين أضحوا منذ بداية الحرب هدفاً للآلة العسكرية الإسرائيلية، بخلاف القوانين الدولية التي تحرّم وتجرّم المساس بالعاملين في السلطة الرابعة، إلا أن تغطية الجرائم الإسرائيلية على الأرض ما زالت متواصلة بأبسط الأدوات والإمكانات.
لكن، إن كان التعامل مع الواقع اللوجستي الجديد، لناحية غياب المعدات، وانقطاع الكهرباء وضعف شبكة الإنترنت، أمراً يمكن التحايل عليه بأساليب مختلفة، فإنّ القتل الذي طاول الجسم الصحافي، جعل كل مراسل، وكل مصوّر في غزة يعرف جيداً معنى الفقد ومرارته.
فكيف يمكن لمراسل فقد زميله الذي رافقه منذ أول الحرب أن يكمل التغطية بالزخم نفسه؟ كيف للصحافية التي رأت زميلاتها يسقطن واحدة تلو الأخرى أن تواصل عملها وسط شبح المجازر الذي يلاحق الجميع؟ في ما يلي يوضح لنا ثلاثة صحافيين من غزة، عملهم بعد استشهاد زملائهم.
يوضح الصحافي الفلسطيني علاء محسن، وهو صديق الشهيد الصحافي سعيد الطويل لـ "العربي الجديد"، أنه فقد صديقه وزميله في العمل في اليوم الرابع للحرب. إذ خرج الطويل فجراً لتغطية قصف أحد الأبراج السكنية القريبة، إلا أن الطائرات الحربية استهدفته برفقة اثنين من زملائه الصحافيين، ما أدى إلى استشهادهم على الفور.
وعن تفاصيل الحادث، يقول محسن: "نمنا في الغرفة نفسها داخل برج الغفري غربي مدينة غزة، عند الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبعد قرابة ساعتين استيقظت ولم أجد سعيد، سألت زملائي عنه، فأخبروني أنه خرج لتغطية قصف برج حجي، حينها لبست بزة الصحافة وخرجت للحاق به، وفي طريقي إلى المكان استهدف الاحتلال أحد المفترقات المؤدية إلى منطقة الفنادق، وقصف عمارة بابل التي كان سعيد موجوداً فيها برفقة عدد من الزملاء".
ويتابع: "لحظة وصولي إلى بوابة برج الغفري، بدأت بسؤال الصحافيين المتجمعين لتغطية الحدث، عن سعيد، حينها أخبرني سائق إسعاف باستشهاد ثلاثة صحافيين واصلت تقدمي إلى مكان الحادث حتى وجدت سعيد ملقىً على الارض شهيداً، وإلى جانبه الصحافيان هشام النواجحة ومحمد صبح، اللذان استشهدا أيضاً، ونقلناهم إلى مستشفى الشفاء".
ويوضح محسن أن الحديث عن شهداء الصحافة مدعاة للفخر والحزن، فيما لا يزال هو وباقي زملائه يفتقدون الجميع في كل حدث وخبر، "كما تفتقدهم شوارع مدينة رفح وأزقتها وحاراتها، لكن نواصل التغطية ونقل صورة ما يجري وفاءً لسعيد ولكل الصحافيين الشهداء، ولأبناء شعبنا الذين يتعرضون لأبشع المجازر الإسرائيلية".
وكان استهداف الصحافيين في الأيام الأولى للعدوان يحصل وفق خطة إسرائيلية واضحة، منذ اللحظة الأولى للسابع من أكتوبر، ففي ذلك اليوم وحده استشهد الصحافيون محمد جرغون، وإبراهيم لافي، ومحمد الصالحي، بينما فقد أثر المصوّرين نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد. 
وتقول الصحافية الفلسطينية كاري ثابت إنها فقدت العديد من زملائها الصحافيين، ومن بينهم حسونة اسليم، وسعيد الطويل، وساري منصور، ومحمد صبح، "كُنا نتعاون في المجموعات الإخبارية التي نستخدمها لتناقل الأنباء وتبادلها، إلى جانب التنسيق في ما بيننا لتغطية الفعاليات والمهرجانات والاحتفالات".
وتلفت ثابت "العربي الجديد" إلى أنها على الرغم من الفقد الكبير، ما زالت تواصل التغطية الصحافية، وترافقها غصة الحزن طوال الوقت "على ذكرى الزملاء الصحافيين الذين بدأت بفقدانهم منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي... لم يعد القلب قادراً على المزيد من الفقد".
وتشير ثابت إلى أن العدوان الحالي من أصعب الحروب التي مرّ فيها الشعب الفلسطيني، وعايشها أهالي قطاع غزة، ما يدفعها ومعها باقي الصحافيين إلى مواصلة التغطية الميدانية للأحداث والمجازر الإسرائيلية، فيما لا تغيب عن مخيلتها صور من فقدتهم، سواء من داخل الوسط الصحافي أو خارجه.
فيما تصف الصحافية الفلسطينية شيرين خليفة العدوان الإسرائيلي المتواصل للشهر العاشر على التوالي بأنه مختلف جذرياً بتفاصيله عن كل جولات التصعيد التي شهدتها سابقاً، حيث تزامنت حالة النزوح التي عاشتها برفقة أسرتها من مدينة غزة نحو مدينة رفح جنوبيّ القطاع، مع تلقيها خبر استشهاد صديقة صحافية إثر استهداف إسرائيلي.
ولا تنكر خليفة في حديثها مع "العربي الجديد" توقفها عن العمل لأيام عدة، إلا أنها عادت إلى التغطية وكتابة التقارير والقصص، حتى أصيبت بصدمة أخرى بعد تلقيها نبأ استشهاد صديقتها الصحافية علا عطا الله، وتقول إنها في البداية لم تصدق، لكن الخبر انتشر سريعاً، حينها عجزت عن البكاء، "فقط استمعتُ إلى آخر رسالة صوتية كانت قد أرسلتها لي قبل الحرب، يكفي أنها كانت تحمل صوتها".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

وتشير خليفة إلى أنها عادت إلى التغطية مجدداً، على الرغم من حالتها النفسية المتردية، فيما توالت الصدمات، حيث استشهدت صديقتاها الصحافيتان، هبة العبادلة وآمنة حميد. وتضيف شيرين بصوت منهك وحزين: "أعتقد أنني تلقيت ضربات صعبة في هذه الحرب، لكنني ما زلت أعمل وأفكر كيف يمكنني تخليد أسماء صديقاتي... لا أريد أن يذهبن طيّ النسيان، ففقدان الصديقات نزف أبدي يرهق الروح".
ورغم اختلاق الاحتلال لحجج عشوائية حاولت من خلالها تبرير قتل الصحافيين، فإن موقع "فوربيدن ستوريز" بالتعاون مع  خمسين صحافياً، رصد وحقّق لمدة أربعة أشهر (بين أكتوبر 2023 ويناير 2024) في إصابة واستشهاد أكثر من مئة فلسطيني من الأطقم الإعلامية في غزة، على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. وأشار في نتائج التحقيق الذي نشر قبل أسابيع إلى أن الاحتلال "استهدف ما لا يقل عن 18 شخصاً من هذه الأطقم، بضربات موجهة، من المحتمل أن تكون قد نُفذت باستخدام طائرات مُسيّرة، بالمخالفة لقوانين الحرب؛ وذلك على عكس مزاعم الجيش الإسرائيلي بعدم تعمد استهداف الصحافيين". وأشار التحقيق إلى أن أربعة صحافيين على الأقل كانوا يرتدون سترات صحافية، "وتُعَدّ واقعة تل الزعتر مثالاً واحداً على ما يبدو نمط الجيش الإسرائيلي في استهداف صحافيين من غزة".
بموجب القانون الإنساني الدولي، الذي يعرف أيضاً بـ "قانون النزاعات المسلحة"، فإن استهداف المدنيين عمداً، بمن في ذلك الصحافيون، يشكل جريمة حرب.
وفنّد التحقيق طريقة رصد صحافيين بالطائرت المسيّرة: "تعد الإشارات (إشارات الهواتف) جزءاً أساسياً من آلية تحديد أهداف الطائرات المُسيّرة؛ فوفق الخبراء، يمكن اعتراض الاتصال بالإنترنت، والكشف عن موقع الشخص. وغالباً ما تستهدف ضربات الطائرات المُسيّرة الهواتف الجوالة". ونقل التحقيق عن المحامي والباحث في حروب المُسيّرات، خليل ديوان، أن "استخدام الطائرات المُسيّرة في الحروب يعتمد على التقاط الإشارة والبنية التحتية للاتصالات؛ وبالتالي فإن الجيش الإسرائيلي على علم مسبق بهوية الأهداف التي يضربها". وأضاف ديوان: "إذاً، فإنّ الهواتف الجوالة وشرائح الهواتف الخلوية، واستخدام بعض تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتضمن إعدادت تحديد الموقع، والبث المباشر؛ كل هذه المعطيات تجعل الشخص هدفاً محتملاً للمُسيّرات".

المساهمون