أحمد الطيّب يُعيد زمن الأزهر

31 اغسطس 2020
+ الخط -

احتلّ شيخ الأزهر أحمد الطيّب مكاناً بارزاً في أخبار الأيّام الماضية. في البداية، جاء قرار ملك ماليزيا، عبد الله أحمد شاه، منحه جائزة "الشخصية الإسلامية الأولى لعام 2020"، وهي جائزة سنوية تُمنح للشخصيات المرموقة دولياً وتؤدي دوراً بارزاً في خدمة الإسلام والمسلمين. وكتب الطيّب على حسابه في "تويتر" أن هذا التكريم عزيز على القلب، من بلد يمثّل نموذجاً حضارياً، مُعتبراً أنه في حقيقته تكريم للأزهر وعلمائه وطلّابه.
ونجحت مساعي شيخ الأزهر في إيقاف صدور قانون تنظيم دار الإفتاء من مجلس النوّاب، بعدما أرسل خطاباً إلى رئيس المجلس، طلب فيه حضور جلسة التصويت على مشروع القانون، لعرض رؤية الأزهر فيه، موضحاً أن من شأن هذا المشروع أن يقيم كياناً موازياً للأزهر، ويجتزئ رسالته، ويقوّض من اختصاص هيئاته. وأرفق الطيب بالخطاب رأي هيئة كبار العلماء بمشروع القانون، مع صورة لتقرير قسم التشريع في مجلس الدولة الذي ذهب إلى مخالفة المشروع الصريحة لنصوص الدستور الذي جعل الأزهر دون غيره المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية. وقد آتت ضغوط شيخ الأزهر أُكلها بسحب مشروع قانون تنظيم الإفتاء من التصويت. 
لم يكن مشهد حصول الطيّب على الجائزة الماليزية الأوّل في مسلسل تكريمه دولياً، فقد سبقته مشاهد كثيرة رسمية وشعبية، أبرزها مشاهد الاحتفاء الشعبي به في جولته الآسيوية في مطلع مايو/ أيار 2018. وقد كان مشهد وقوف جمع من الطالبات الإندونيسيات، وهنّ يُنشدن النشيد الوطني المصري، احتفاءً بزيارة الشيخ بلدهن، مُعبّراً إلى أبعد مدى عن المكانة التي يحظى بها الأزهر في قلوب آلاف من خرّيجيه الذين يفدون إليه من كلّ بقاع الدنيا، للنهل من علمه، ويعودون إلى بلادهم حاملين سمْته الوسطي المعتدل، وحبّ البلد الذي يحتضن الأزهر، بما يمثّل مَعيناً جارياً للقوّة الناعمة لمصر. 

أحدث أحمد الطيّب نقلة كبيرة في أداء الأزهر، ونجح خلال العقد الماضي نجاحاً مبهراً في استغلال المساحة المُتاحة له

يتعيّن القول إن الأزهر فقد أرضية واسعة في الفترة التي تولّى فيها الراحل محمد سيّد طنطاوي مشيخة الأزهر (1996 – 2010)، الذي تركت فترته آثاراً سلبية كبيرة على صورة الأزهر محلياً، وإقليمياً، ودولياً. فقد انكمش دور الأزهر وتراجع تأثيره في الداخل المصري والعالم الإسلامي، فالرجل كان يرى نفسه موظّفاً حكومياً بكلّ دلالات الكلمة، وافتقد أيّ تصوّر لموقعه الرفيع، أو لرسالة الأزهر العالمية.
وازداد الطين بلّة بتوسّع نظام حسني مبارك، الفاقد أي مشروع سياسي، في سياسة استلحاق الأزهر بالسلطة (وهي سياسة ثابتة لدولة 23 يوليو 1952، وتغوّلها على المجتمع منذ الحقبة الناصرية، والقانون 103 لسنة 1961 الذي وجّه ضربة قاضية إلى استقلال الأزهر)، عبر توريط الأزهر في أزماتٍ سياسيةٍ لا تعني الأزهر من قريب أو بعيد، بغرض توظيف خطابه وإسباغ الشرعية الدينية على سياسات النظام، ما ألحق ضرراً جسيماً بصورة الأزهر، وأفقد خطابه المشروعية والمصداقية، وفتح أبواب المجال الديني على مصاريعها، لتمدّد خطابات تنظيمات الإسلام الحركي بشقيه السلمي والعنيف (كلّ تلك الجماعات ترى الأزهر خصماً أساسياً لها، وعقبة كأداء في طريقها وتسعى إلى المزايدة عليه، واختراقه، وتطويعه لمصالحها) والمشايخ المُتنطّعين المُتسلّفين، من ذوي الخلفية الوهّابية المعادية بطبيعتها للأطروحة الأزهرية، ذات الجذور الأشعرية الصوفية، بخطابهم البائس المُتيبّس القائم على الشكليات الدينية، المعني باللحية والنقاب. وقد بلغت موجة المدّ السلفي مداها في فترة طنطاوي في الأزهر، التي شهدت أيضاً أحداثاً دولية كبرى (الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق) وسياق تاريخي مأزوم فكرياً واجتماعياً، ساهم في انتشار الموجة السلفية.
أحدث الشيخ أحمد الطيّب نقلة كبيرة في أداء الأزهر، ونجح خلال العقد الماضي نجاحاً مبهراً في استغلال المساحة المُتاحة له وفق الدستور، وتمكّن من استعادة جزء كبير من الأرضية التي فقدها الأزهر خلال عقود ماضية، عبر حرصه الدؤوب على انتزاع استقلال الأزهر الذي أعاد إليه هيبته، بعد التخلّص من الصورة القديمة التي أظهرته مجرّد مؤسّسة حكومية، وكان موفَّقاً عندما كانت أولى خطواته إعادة تموضع الأزهر، بترسيم الحدود بينه وبين السلطة، واشتباكه المحسوب مع الأمور السياسية، بالتمييز بين ما هو شرعي وما هو سياسي، بما يحفظ للأزهر مكانته، وينأى به عن التورّط في الأزمات السياسية. وساعده الربيع العربي في هذا، بعد حالة الفشل السياسي الذريع والانكشاف الأخلاقي الكبير التي مُنيَ بها الإسلام الحركي الذي دخل في أزمة كبيرة، وتيار التنطّع والتسلّف الذي دخل في موجة جزر عاتية، بعدما ظهر شيوخه بمظهر بالغ البؤس، كشف مدى ضحالتهم الشرعية والمعرفية، فضلاً عن سقوطهم الأخلاقي المُريع.

فقد الأزهر أرضية واسعة في فترة تولّى محمد سيّد طنطاوي مشيخته محلياً، وإقليمياً، ودولياً

على صعيد دور الأزهر العالمي، يكفي إلقاء نظرة سريعة على عدّة مشاهد لافتة تعبّر عن رؤية الطيّب، لحضور الأزهر بخطابه المعتدل (ذي الطابع الأخلاقي الإنساني المصطبغ بسمتٍ إسلامي، المرتكز على نبذ العنف وسماحة الإسلام، واحترام العقائد وفلسفة العيش المشترك) في المشهد الدولي، أهمّها الخطاب التاريخي لشيخ الأزهر أمام البرلمان الألماني (مارس/ آذار 2016)، وخطابه التاريخي أيضاً في مؤتمر الأزهر للسلام العالمي في القاهرة بحضور بابا الفاتيكان (إبريل/ نيسان 2017)، إلى جانب موقفه الحاسم تجاه قرار الرئيس الأميركي، ترامب، نقل السفارة الأميركية إلى القدس (ديسمبر/ كانون الأول 2017)، الذي ستر عورات رسمية كثيرة في العالم العربي، فقد رفض الطيّب لقاء نائب الرئيس الأميركي مايك بنس قائلاً: "لا يمكن أن نجلس مع مُزيّفي التاريخ"، والبيان الرائع الذي أصدره عقب مذبحة المسجدين في نيوزيلندا العام الماضي، وحمل خطاباً عقلانياً رصيناً لمعالجة جذور الأزمة، وقبلها بيانه عن مأساة مسلمي الروهينغيا... كلّ هذه المشاهد أكدت مدى حضور الأزهر فاعلاً دينياً رئيسياً في المشهد العالمي، مضطلعاً بمهمّةٍ كبيرةٍ تتسق مع دوره التاريخي منارةً للوسطية والاعتدال.

رفض الطيّب لقاء نائب الرئيس الأميركي مايك بنس قائلاً: "لا يمكن أن نجلس مع مُزيّفي التاريخ"

مؤكّدٌ أن الطيّب ليس زعيماً ثورياً كما تراه تحليلات مُتعسّفة، لكنه إمامٌ جليلٌ يسعى جاهداً إلى استقلال مؤسّسته، وأنه بالفعل قد أعاد زمن الأزهر الذي شهد في عهده إصلاحات عميقة، في خطابه الديني، والإعلامي، وتطويراً كبيراً في مناهجه، كذلك تصدّى الرجل، بشجاعةٍ وحكمةٍ، لحملاتٍ شعواء مُغرِضةٍ بلغةٍ مُتدنيّة من أطراف شتّى (تنويريون - تكفيريون - حركيون - متنطّعون) على كلّ التناقضات بينها، اجتمعت على كراهية الأزهر، ورموزه، وشيخه، حملات استهدفت الطعن في الأزهر، وتصفية حسابات شخصية مع شيخه، من صغار العقول والأخلاق، فضلاً عن المحاولات التشريعية المستمرّة للمساس باستقلال الأزهر. والمفارقة المؤسفة هنا أن الأزهر يُكرّم في شخص شيخه في الخارج، ويُهان في وطنه (!).
يُخبرنا التاريخ أن المساس باستقلال الأزهر، ومحاولة "دولنته" وتأميم خطابه، وإلغاء المسافة التي تفصله عن السلطة، يخصم من رصيده، ويضرب مصداقيته، ويقوّض مكانته، ويسمح تلقائياً بظهور خطابات متطرّفة منافسة، ومعادية للأزهر، وأن الإبقاء على هذه المسافة يكون دوماً في مصلحة الدين، ومصلحة السلطة، ومصلحة الأزهر، في آنٍ واحد معاً.