08 يونيو 2023
"25 يناير" وإعادة بناء الهوية المصرية
بعد مرور خمس سنوات على انطلاق الثورة المصرية، متمثلة في انتفاضتها الأولى في يناير 2011، كان ولا يزال ذلك هو الحدث الأهم في تاريخ مصر الحديث، فخروج الملايين إلى الشوارع كان يعني كسر احتكار الشارع من تيارات سياسية مختلفة (بعيداً عن قوة تنظيمها أو حجمها) أو مساهمتها مع القوى الأخرى، فيما يطلق عليه الجماعة الوطنية. ولعل الحدث الأبرز والأهم في يناير هو إعادة ترسيم الهوية المصرية على أسس وطنية، وليست أسساً أيديولوجية أو مذهبية. فنتيجة للصراع بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والإسلاميين، وهيمنة الدولة على المؤسستين الدينيتين، الكنيسة/الأزهر، تم ترسيخ فكرة الانقسام بين مكونات المجتمع على أسس دينية، والتي تطورت، فيما بعد، وأصبحت تعرف بالمشكلة الطائفية، ونتيجة لممارسات نظام حسني مبارك القمعية، ورفع الدولة يدها عن الرعاية المجتعمية، ورعاية المواطن، وإغلاق المجال العام بصورة أمنية، ساهم ذلك في ترسيخ الانقسام، بصورة أكبر، حيث لجأ القبطي إلى الكنيسة، ولجأ المسلم إلى المسجد، ما عزّز روح التشدد وتحفيز النعرة الدينية، وقد دفع النظام في اتجاه ذلك ترسيخاً لحكمه، وتأكيداً على كونه مفتاح الاستقرار للمجتمع، وتفاقمت الأزمة بصورة أكبر من خلال الصدامات المباشرة بين الجانبين، ما أدى إلى تعزيز روح الاغتراب داخل المجتمع القبطي، وإحساسه بكونه أقلية، وليس جزءاً من عمق مصر الحضاري، وأحد مكونات المجتمع المصري.
هنا وفي تلك اللحظة، تحولت الهوية إلى فكر سياسي، يتم استخدامه في أتون المعركة السياسية لخدمة مصالح النظام والجماعات السياسية المختلفة (قبطية/ إسلامية) وليس مصلحة الوطن. وفي الوقت نفسه، تكريس سلطة البابا بصورة أكبر على المجتمع القبطي، وتحويله من زعامة روحية إلي زعامة سياسية. كل المظاهرات التي قام بها الأقباط قبل يناير/كانون الثاني 2011 كانت تتم داخل الكاتدرائية شعاراتها كانت طائفية بامتياز، وليس تعبيراً عن كونهم جزءاً من المجتمع. ومع انطلاق الثورة في يناير، كسر عدد من الشباب القبطي ذلك الحاجز الديني والسياسي والمذهبي، وشارك في الثورة الشعبية، معلناً عن كونه جزءاً من العمق الحضاري لمصر، والتأكيد على رفضه الممارسات، ووصفه بأنه أقلية، وما يتبعها من شعارات وأقوال، فكانت مشاركته دلالة على تأكيده على إعادة هويته علي الأساس الوطني والمطلب الجماهيري، وليس علي الأساس الطائفي. وكان ذلك لحظة تاريخية، استطاع الجميع أن يكسر فيها البعد الطائفي، ويقف الجميع على أرضية واحدة، وقد برز ذلك بوضوح في أننا لم نجد حادثاً طائفياً واحداً، أو حرق كنيسة في تلك الفترة. ومع تصاعد المد الثوري، وتشكل الوعي السياسي لدى الشباب، تطورت مشاركة الشباب المصري (القبطي) ليتم تشكيل حركة سياسية فيما بعد على أسس وطنية، تتكئ على استحقاقات الثورة، وفي مقدمتها القصاص للشهداء والحرية للمعتقلين.
في أوساط الشباب، كان اليأس هو المسيطر، وتمكّن حالة الاغتراب التي يعيشها الشباب على
أرضه، ووسط مجتمعه، إن أخطر الممارسات التي مارسها نظام مبارك من خلال الزواج بين المال والسلطة، وهيمنة الأجهزة الأمنية على المجال العام، وتفشي الفساد والمحسوبية، جعل هناك حالة من الشعور بفقد الانتماء لدى الشباب، ما زاد من حالة الهجرة الخارجية، بحثاً عن مصادر الرزق وفرصة في حياة كريمة، أو بحثاً عن فرصة تعليمية أفضل. أكثر ما كان يرهق كاهل الشباب في أثناء حكم مبارك هو فقدان الأمل والبوصلة في تحديد هدفه ومستقبله، والشعور بالإهانة داخل الوطن وخارجه، والأكثر هو الشعور بالمظلومية التي أثقلت كاهله. جاءت ثورة يناير لتعيد الأمل إلى فاقديه، ولتحيي الوطنية مرة أخرى في نفوس الشباب، ولتعيد التأكيد على معنى الوطنية ومفهومها بكونه مصرياً. ولذلك، ظهر شعار(ارفع رأسك فوق أنت مصري)، فهو لم يكن شعاراً اعتباطيا، بل كان مبنياً على أسبابٍ وخلفياتٍ، جعلت من الشعار رداً من الاعتبار للذات التي فقدت كل شيء في الماضي. فجرت ثورة يناير طاقات إبداع لدى الشباب، فأصبحت هناك حالة من النشاط المجتمعي، والمساهمات في المجال العام، للتأكيد على الحضور، والقدرة على إثبات الذات، المبنية على أسس وطنية حقيقية، وهوية واضحة المعالم.
واستطاعت الثورة أن تخرج التيارات الإسلامية التي كانت منغلقة على نفسها من قوقعة الماضي، ومن فرضية الحل الإسلامي وحتميته ورفض الديمقراطية، والهوية الإسلامية التي تشمل الدولة والمجتمع. صحيح أنها لم تجعل هذه التيارات تغادر كل تلك المسائل جملة وتفصيلاً، لكنها جعلت من قبول الحل السياسي والديمقراطية نظاماً سياسياً إحدى القواعد الأساسية في المشاركة السياسية. فمثلاً، انتقل السلفيون (لا أقصد كلهم، أو المتحالفين مع الأجهزة الأمنية)، من كون الديمقراطية حراماً إلى القبول بها أساساً على المنافسة السياسية، في المقابل اندماج عدد من شباب التيار السلفي داخل الحركة السياسة الشعبية العامة (إذا جاز التعبير)، وظهور حركات سلفية ترفض التقوقع داخل الأيديولوجيا، بل لا بد من المشاركة في المجال العام على أسس وهوية وطنية. حتى إن الانقسامات التي حدثت داخل تنظيم جماعة الإخوان بكونه أكبر تنظيم سياسي إسلامي، وخروج عدد من الشباب، والتمرد على قياداته، والتأكيد على ترهل التنظيم وشيخوخته، يرجع الفضل فيه إلى الثورة التي فتحت المجال العام أمام الجميع، وبينت ضعف الرؤى القديمة، المبنية على حسابات ضيقة، تتسم بالمصلحة الشخصية والتفاهمات مع النظام، والتمحور حول الدين شعاراً في معركتها السياسية، لتحقيق أهداف ومنافع ذاتية، وليس انطلاقاً من أرضية وطنية، (يدرس هذا التحول الآن في الأروقة الأكاديمية تحت ما يسمى: ما بعد الإسلاموية").
على المستوى الشعبي، أحدثت يناير حالة من الشعور بالانتصار، وأحيت الوعي الجمعي المصري حول قضايا داخلية وخارجية عديدة، فقد انطلقت الأغاني الوطنية في ميدان التحرير وكل ميادين مصر، للتأكيد علي أحقية المصريين لمصر، واستعادتهم لها وإدراكهم بالذات حالة عامة، وليست شعاراً يرفع في المناسبات. هزمت الثورة من احتكر الوطنية عقوداً، واختزل مصر فيه، وفي نظامه وأسقطت المقولات الزائفة التي تربت عليها أجيالٌ عقوداً متتالية. يرجع الفضل في أي تغيير سيحدث في مصر في السنوات المقبلة لثورة يناير، فقد أيقظت المصريين من ثباتهم العميق، للتأكيد، مرة أخرى، على قيم أساسية، مثل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، والأهم من ذلك إعادة ترسيم معنى الهوية مرة أخرى. لم تنجح الموجة الأولى من الثورة في أن تسقط النظام، بل أسقطت رأسه، وهذا شأن الثورات بصورة عامة.
جاءت يناير لتؤكد أن الدين لله والوطن للجميع، وأن مصر للمصريين، وليس لفئة معينة، أو نظام معين، بل هي ملك للمصريين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم وأفكارهم المتنوعة. أجهض نظام "3 يوليو" ذلك كله، أعاد اليأس في نفوس المصريين والشعور بالاغتراب، لكن الرهان الحقيقي يبقي على الزمن جزءاً من العلاج، وعلى التفاوت والانتقال الجيلي الذي صنعته الثورة، سيظل النظام يقاوم، وستظل حركة الشارع بين مد وجزر تقاوم، وفي النهاية، تكون الغلبة للجماهير. رحم الله الشهداء.
هنا وفي تلك اللحظة، تحولت الهوية إلى فكر سياسي، يتم استخدامه في أتون المعركة السياسية لخدمة مصالح النظام والجماعات السياسية المختلفة (قبطية/ إسلامية) وليس مصلحة الوطن. وفي الوقت نفسه، تكريس سلطة البابا بصورة أكبر على المجتمع القبطي، وتحويله من زعامة روحية إلي زعامة سياسية. كل المظاهرات التي قام بها الأقباط قبل يناير/كانون الثاني 2011 كانت تتم داخل الكاتدرائية شعاراتها كانت طائفية بامتياز، وليس تعبيراً عن كونهم جزءاً من المجتمع. ومع انطلاق الثورة في يناير، كسر عدد من الشباب القبطي ذلك الحاجز الديني والسياسي والمذهبي، وشارك في الثورة الشعبية، معلناً عن كونه جزءاً من العمق الحضاري لمصر، والتأكيد على رفضه الممارسات، ووصفه بأنه أقلية، وما يتبعها من شعارات وأقوال، فكانت مشاركته دلالة على تأكيده على إعادة هويته علي الأساس الوطني والمطلب الجماهيري، وليس علي الأساس الطائفي. وكان ذلك لحظة تاريخية، استطاع الجميع أن يكسر فيها البعد الطائفي، ويقف الجميع على أرضية واحدة، وقد برز ذلك بوضوح في أننا لم نجد حادثاً طائفياً واحداً، أو حرق كنيسة في تلك الفترة. ومع تصاعد المد الثوري، وتشكل الوعي السياسي لدى الشباب، تطورت مشاركة الشباب المصري (القبطي) ليتم تشكيل حركة سياسية فيما بعد على أسس وطنية، تتكئ على استحقاقات الثورة، وفي مقدمتها القصاص للشهداء والحرية للمعتقلين.
في أوساط الشباب، كان اليأس هو المسيطر، وتمكّن حالة الاغتراب التي يعيشها الشباب على
واستطاعت الثورة أن تخرج التيارات الإسلامية التي كانت منغلقة على نفسها من قوقعة الماضي، ومن فرضية الحل الإسلامي وحتميته ورفض الديمقراطية، والهوية الإسلامية التي تشمل الدولة والمجتمع. صحيح أنها لم تجعل هذه التيارات تغادر كل تلك المسائل جملة وتفصيلاً، لكنها جعلت من قبول الحل السياسي والديمقراطية نظاماً سياسياً إحدى القواعد الأساسية في المشاركة السياسية. فمثلاً، انتقل السلفيون (لا أقصد كلهم، أو المتحالفين مع الأجهزة الأمنية)، من كون الديمقراطية حراماً إلى القبول بها أساساً على المنافسة السياسية، في المقابل اندماج عدد من شباب التيار السلفي داخل الحركة السياسة الشعبية العامة (إذا جاز التعبير)، وظهور حركات سلفية ترفض التقوقع داخل الأيديولوجيا، بل لا بد من المشاركة في المجال العام على أسس وهوية وطنية. حتى إن الانقسامات التي حدثت داخل تنظيم جماعة الإخوان بكونه أكبر تنظيم سياسي إسلامي، وخروج عدد من الشباب، والتمرد على قياداته، والتأكيد على ترهل التنظيم وشيخوخته، يرجع الفضل فيه إلى الثورة التي فتحت المجال العام أمام الجميع، وبينت ضعف الرؤى القديمة، المبنية على حسابات ضيقة، تتسم بالمصلحة الشخصية والتفاهمات مع النظام، والتمحور حول الدين شعاراً في معركتها السياسية، لتحقيق أهداف ومنافع ذاتية، وليس انطلاقاً من أرضية وطنية، (يدرس هذا التحول الآن في الأروقة الأكاديمية تحت ما يسمى: ما بعد الإسلاموية").
على المستوى الشعبي، أحدثت يناير حالة من الشعور بالانتصار، وأحيت الوعي الجمعي المصري حول قضايا داخلية وخارجية عديدة، فقد انطلقت الأغاني الوطنية في ميدان التحرير وكل ميادين مصر، للتأكيد علي أحقية المصريين لمصر، واستعادتهم لها وإدراكهم بالذات حالة عامة، وليست شعاراً يرفع في المناسبات. هزمت الثورة من احتكر الوطنية عقوداً، واختزل مصر فيه، وفي نظامه وأسقطت المقولات الزائفة التي تربت عليها أجيالٌ عقوداً متتالية. يرجع الفضل في أي تغيير سيحدث في مصر في السنوات المقبلة لثورة يناير، فقد أيقظت المصريين من ثباتهم العميق، للتأكيد، مرة أخرى، على قيم أساسية، مثل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، والأهم من ذلك إعادة ترسيم معنى الهوية مرة أخرى. لم تنجح الموجة الأولى من الثورة في أن تسقط النظام، بل أسقطت رأسه، وهذا شأن الثورات بصورة عامة.
جاءت يناير لتؤكد أن الدين لله والوطن للجميع، وأن مصر للمصريين، وليس لفئة معينة، أو نظام معين، بل هي ملك للمصريين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ومشاربهم وأفكارهم المتنوعة. أجهض نظام "3 يوليو" ذلك كله، أعاد اليأس في نفوس المصريين والشعور بالاغتراب، لكن الرهان الحقيقي يبقي على الزمن جزءاً من العلاج، وعلى التفاوت والانتقال الجيلي الذي صنعته الثورة، سيظل النظام يقاوم، وستظل حركة الشارع بين مد وجزر تقاوم، وفي النهاية، تكون الغلبة للجماهير. رحم الله الشهداء.