جاء تشكيل ثلاثة أحزاب يسارية مغربية، قبل أيام، تكتلاً جامعا بينها، مؤشرا جديداً على بحث اليسار المغربي، منذ عقود، عن بوصلة له، مع وطأة الواقع الثقيلة، وعناد التركيبة الاجتماعية ومقاومتها لتمثيل مقولات نابعة من الاشتراكية العلمية والمادية الجدلية. وجاء الإعلان أيضاً، تعبيراً عما يمكن اعتباره "حلماً" لدى مكونات اليسار المغربي، خصوصاً التي تعتبر نفسها الأجدر بالتحدث باسم ما تسميها، في أدبياتها، "الجماهير الشعبية"، باتجاه صياغة نموذج اجتماعي، تسوده العدالة والكرامة والديمقراطية والحداثة والاشتراكية.
وقد أعلنت أحزاب تنتسب إلى "عائلة" اليسار المغربي، "الاشتراكي الموحد" و"الطليعة الديمقراطي الاشتراكي" و"المؤتمر الاتحادي"، الاثنين الماضي، في الرباط، في مهرجان خطابي، تأسيس "فيدرالية اليسار الديمقراطي". وكانت الأحزاب الثلاثة قد شكلت بعد في العام 2007، "تحالف اليسار"، وأرادت في اختيارها يوم 23 مارس/آذار الجاري، لإعلان تكتلها الجديد، أن تظهر للسلطة والقوى التي تدور في فلكها، أَن لديها شرعية تاريخية ونضالية، وتعتبر نفسها استمراراً طبيعيا لنضالات الفئات الاجتماعية المسحوقة، على اعتبار أن الانتفاضة الأولى التي شهدها المغرب ضد القمع والاستبداد والاستفراد بالقرار كانت في 23 مارس/آذار 1965.
وبحسب المؤسسين، فإن الإعلان عن "فيدرالية اليسار الديمقراطي" هو خطوة أولى في مسيرة الألف ميل، لأن الهدف الاستراتيجي هو تحقيق الاندماج، غير أن الوصول إلى هذا الأمر، على ما دلت تجارب سابقة، يتطلب تمريناً نقدياً قاسياً، وتدريباً على رياضة التنازلات المتبادلة؛ فقد لوحظ في مختلف المحاولات الاندماجية والوحدوية، والتي جربتها أحزاب اليسار، أن هناك صعوبة كبيرة في التخلي عن الذات الحزبية، ذلك أن كل تنظيم يتمسك بكيانه وأجهزته وأطروحاته، وتطفو على السطح حسابات وتأويلات صغيرة، على الرغم من أن هذه الأحزاب تقتسم الأيدولوجيا نفسها والقاموس نفسه. وكلها تقريبا انشقت عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (معارضة)، والذي لم يتمكن في أكثر من احتقان داخلي، من إدارة تشنجاته التنظيمية بطريقة ديمقراطية، فكانت النتيجة تناسلات حزبية متتالية، ما أصاب الحزب بالضعف.
ومن العناوين الكبرى لمشروع "فيدرالية اليسار الديمقراطي" في المغرب، المطالبة بملكية برلمانية ودستور ديمقراطي وانتخابات حرة ونزيهة، وبإصلاحات عميقة في كل القطاعات. وتسعى "الفيدرالية" إلى تشكيل معارضة حقيقية ضد ما تصفها بـ "التكتلات الأصولية"، سواء المخزنية (الملكية التقليدية)، أو التي تستند إلى مرجعية دينية، في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقود الائتلاف الحكومي في المغرب منذ انتخابات 2012، برئاسة عبد الإله بنكيران. ويرى مراقبون أن هذه المطالب تعكس شكلاً من "الميتافيزيقا السياسية"، إذ كيف يمكن إسقاط دستور صوت عليه أكثر من 98 في المئة من المغاربة، في 2011، واعتبره معظم الفاعلين والنشطاء طفرة وثورة، واستثناء في المنطقة العربية؟
ويشير البعض إلى أن تشكيل الأحزاب اليسارية المغربية الثلاثة "فيدرالية"، دليل على وصف اليساريين بأنهم "شعراء السياسة"، فهم يهتمون بالإنسان المثال، وبالقيم والفكرة والمبادئ، وينسون تعلم أصول الحكم وحل الملفات والمشكلات، لا سيما وأن أحزاب "الفيدرالية" مجتمعة لا تتوفر على مقعد واحد في البرلمان، ما يعني أنها تفتقد إلى قواعد في مقدورها أن تحملها إلى البرلمان والحكومة، ما لا ينفي أن لها أنصاراً لا يزالون يفتخرون بما يمكن تسمياها "العذرية السياسية"، ولا يكفون عن ترداد مقولتي "التحليل الملموس للواقع الملموس"، و"لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير"، وغيرهما.