تبدو رواية "فتنة السنونو"، للكاتب والتشكيلي المغربي، عبد الله لغزار، سيرةً تأمّلية في حياة رجل اسمه أحمد. العمل الصادر عن "دار فالية للطباعة والنشر"، يستعيد حيوات جاورت حياة البطل الذي عاش صراعاً شرساً، هو وشخصيات أخرى، مع الوضع المهين في تجلّياته المختلفة، ويطلعنا السارد على أن هذه الشخصيات كانت طموحةً وحركيَّة في البداية، لكن هيمنة المركز بوسائله القاهرة أحبتطها، واضطرّتها، بعد صيغٍ مختلفة من المقاومة، إلى الإقرار بالهزيمة في نهاية المطاف.
يطمح الهامش، في "فتنة السنونو"، إلى أن يُعرّف بذاته فضاءً يتجاوز النسيان والحاجة والنقص والإقصاء، وحتى الغربة؛ فيقدّم نفسه تخييلاً مقاوماً، يناهض كلّ أشكال الهيمنة والسيطرة، ويطرح لذاته بديلاً تعريفيّاً جديداً، لا يقتصر على الرغبة في الانسلاخ عن موقعه في الطرف، قصد الالتحاق بالمركز أو الاقتراب منه، مثلما تذهب إلى ذلك نظرية الأنساق المتعدّدة، بل يصبو إلى تحويل الهامش مكاناً للإقامة وموقعاً للرد بالكتابة، أي بزحزحة المواقع التقليدية عن أماكنها وإرساء مواقع جديدة تكون إمكاناً إبداعياً يقدر على المقاومة والاستمرار.
ينتصر الروائي في العمل إلى الهامش الجغرافي، فيحتفي بـ تادلة، وسط المغرب، مدينته الهامشية، ويزحزح المركز: الرباط، والدار البيضاء، مثلاً، من دون إبداء رغبة في الانتقال إليه، وهي استراتيجية تحوّل الثقل إلى فضاء مضاد، بل إن طموحه هو تحويل الهامش إلى مركز موازٍ، وتقولُ الرواية ذلك مجازاً، طالما أن عالمها فني تماماً؛ أي أنه شيء مصنوع، ولكنّه يقول شيئاً آخر، بتعبير هايدغر في كتابه "أصل العمل الفني".
رغم أن الرواية فن مديني بامتياز، فإن مجال الحركة السردية فيها كان هامشياً هو الآخر، ويكفي استحضار المعتقل السرّي في المدينة المغربية، وحركة احتجاج حقوقيين عليه وعلى وجود معتقلين فيه، لنلتقط احتجاج الكتابة على قمع الأفكار، وكبت الاختلاف السياسي. ولنستحضر، أيضاً، المقهى المتواضع هامشاً دالّاً، والذي كان مقرّ اجتماع جماعة مثقّفي تادلة، حيث كانت هذه الجماعة تمارس حرَّيتها ساخرةً من العالم.
يبرز الهامش في اختيار الكاتب شخصيات مهمَّشة لروايته، فإذا كانت عتبة العمل قد وعدت القارئ باحتمال سردي طريف يقتفي مصير ومسير أبطاله، فإن هذا الأفق المتوقّع ينكسر، لتنعطف الرواية، في مسار مغاير، مع شخصيات أخرى تقيم في الهامش الحقيقي.
يعبّر الهامش عن ذاته لغويّاً في استخدام المثل الشعبي مثل "شوف، ولوْ طارتْ معزة!"، بحمولته الكنائية، أَو "البارح معنا في الطبلة واليوم جارنا!"، أو حضور اللغة المتداولة في القاع، وفي "حاسَبْ راسَكْ بيكاسو! [...] كاعْ داكْ التّخربيش".
لكنها لغة لا تخلو من وعي سياسي، لذلك فهي تتعمَّدُ الظهور لتقول ما لن تكون للغة الأخرى كفاية قوله "راهْ التّرابي دْيالْ المخزن"، أو حكاياته الطريفة التي يُمكن النظر إلى حكاية سعيد مع الضفدع (ص 72) على أنها مثال على قدرة الهامش على الإمتاع بالعجائبي، وعلى جعل العجائبي يتداخل مع الحقيقي.
تحرّض الرواية على الاحتجاج الواعي على ثقافات وسياسات تروّج لثقافة الموقع ولتراتبية الأفضية. إنها روايةٌ تحتج على تشكُّل فضاءِ سلطة تسعى إلى تكريس تراتبية المهيمِن والمهيمَن عليه، فتقول أشياء هي الآن لا تُستاغ بحكم ما فيها من إدهاش، وربما تصير هذه الأشياءَ بعد مدّة عادية، مثلما كانت حال "الخبز الحافي" عند صُدورها. لكن الأصل في العادي أنه "كان شيئاً غريباً أدهش الإنسان"، كما يقول هايدغر - مرة أخرى - في كتابه "الحقيقة والمنهج".