"شاكوش" في عيد الحب

17 فبراير 2020

الملعب مفتوح للفالنتاين ومقفل في وجه كرة القدم (تويتر)

+ الخط -
شهد استاد القاهرة الدولي حفلاً غنائياً كبيراً، وخرجت مئات الحافلات ووسائل النقل الجماعي من عدة محافظات، تحمل عشرات الآلاف من العاملين في الحكومة، لحضور الحفل والهتاف لمؤسسات الدولة المصرية. إلى هنا، لا جديد مُهماً يستحق الذكر، فهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها حشد آلاف المصريين للهتاف ورفع الشعارات واللافتات المؤيدة للمؤسسات المصرية الرسمية.
الجديد أن الاحتفالية جرت بمناسبة عيد الحب، وهي المرة الأولى التي تحتفي فيها مصر إلى هذا الحد بذلك اليوم المعروف باسم "فالنتاين". والجديد أكثر وأكثر أن الحفل حظي برعاية شبه رسمية، تجاوزت إقامته على الملعب الرسمي الرئيسي في مصر، فامتدت إلى بثه على الهواء حصرياً بواسطة قناة "دي إم سي" التابعة لمؤسسات الدولة، بل وإعادة عرضه في صباح اليوم التالي.
تضمن الحفل تنوّعاً في أشكال الموسيقى والغناء، كما شارك فيه فنانون عرب إلى جانب المصريين. وهنا جديد آخر فيما تضمنته فقرات الحفل من أسماء وأداء. فإلى جانب تامر حسني ونانسي عجرم ووائل جسار، شارك في الحفل "المغني" الشعبي حسن شاكوش، وهو أحد الأصوات القبيحة التي تسللت إلى ساحة الغناء في مصر من الباب الخلفي الواسع، الأفراح الشعبية، الباب الذي كان في الماضي يمرّر صوتاً واحداً كل بضع سنوات، ثم انفتح على مصراعيه في السنوات الأخيرة، ليمر منه عشرات، ليس شاكوش أولهم، وربما لن يكون آخرهم. ولكن ما يميز هذا عن سابقيه تحقيقه إنجازاً له أن يفخر به، فقد خاض اختبارات نقابة الموسيقيين، قبل أيام قليلة من حفل "الفالنتاين"، وحصل على ترخيص بمزاولة الغناء، فكان التلوث السمعي والبصري الذي بثه في الحفل مدموغاً بموافقة رسمية من النقابة، أي الجهة المختصة التي يفترض أن لها معايير فنية وشروطاً موضوعية فيمن يزاول الغناء.
ظهر شاكوش مغنياً أمام 30 ألف متفرج في مدرّجات استاد القاهرة، وأضعاف هذا العدد على شاشات التلفزيون، وتقيأ على مسامع المتابعين الابتذال المسمّى "أغاني مهرجانات". ثم تكتمل سوريالية المشهد القاتم باستجابة بضعة آلاف من الموجودين داخل الاستاد، لدعوة شاكوش للحضور "اللي يحب مصر يقول هيه.. اللي يعرف يصوّت يصوّت"، في تعبير صادق وبليغ عن مدى تردّي الحس الفني والذوق الغنائي في مصر.
لا جدال في أن هبوط مستوى الغناء والفن ليس سوى أحد مظاهر انحسار قوة مصر الناعمة، وتراجع القدرة على الإبداع الحقيقي. ونتيجة مباشرة لتشوّش منظومة القيم واختلالها، وتآكل الظهير الثقافي والرصيد الحضاري لدى المصريين. ولكن التوجه الرسمي كان يفسّر هذا الوضع المخزي، إما بأنه مؤامرة خارجية أو بأنه استثناء مستجدّ على أصالة الفن والإبداع المصري وعراقتهما. وكان دائماً هناك حرص رسمي على تجنّب أي ارتباط مبشّر بالمنتج الفني الهابط، سواء في السينما أو الغناء، ولا مانع من انتقاد القطاع الخاص من حين إلى آخر. ولكن الرعاية الرسمية لعرّابي هذا التدنّي من أمثال شاكوش ربما تشير إلى مرحلة جديدة في أحوال الفن والفنانين، اقتراباً من التطبيع مع الابتذال الفني وتعويد المصريين عليه. وهو تطوّر يبدو منطقياً، بالنظر إلى عمليات تطبيع أخرى تجري منذ سنوات مع مسارات أخرى، تكرس، بوعي أو بغير وعي، تشويه المجتمع المصري وخلخلته.
وسواء كان ذلك من منطلق تقبل الأمر الواقع والتعبير عنه من دون تجميل أو تهوين، أو ضمن مخطط مدروس للإلهاء والتغييب، المؤكد أن النتائج الكارثية المتوقعة ستكون أخطر كثيراً على المجتمع، وبالتالي أكثر كلفةً على مؤسسات الدولة نفسها، من استعادة قوة الدولة الناعمة، عبر الاستفاقة والتنوير والارتقاء بالذوق العام، وتماسك النسيج المجتمعي ورسوخ النسق القيمي.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.