"احكي يا تاريخ": أخفض من صوت المعركة

20 يناير 2016
حريق القاهرة في 26 كانون الثاني/ يناير 1952
+ الخط -


"التاريخ يكتبه المنتصرون"، يقول التاريخ نفسه بحيث باتت مدوناته مسرحاً لصوت واحد مهيمن، هو دائماً وأبداً صوت السُلطة ليس غير. هكذا على سبيل المثال، روّج محمد علي لنفسه باعتباره مؤسّس مصر الحديثة، حتى باتت مقولته حُكماً جارياً على لسان المؤرخين وصفحات التاريخ.

لنأخذ الهند مثلاً، ففي سياق مضاد للسرديات الرسمية القارّة، ظهرت مجموعة "دراسات التابع" ثمانينيات القرن العشرين، والتي اضطلعت بمهمة تحرير تاريخ الهند من النظرة الكولونيالية التي أرستها كتابات النخبة الهندية، عبر تقديم قراءة نقدية لذلك التاريخ يعتمد دراسة أوضاع الفئات المهمشة والتابعة.

أمّا في مصر، ومنذ نهاية التسعينيات، فقد بدأت تظهر على استحياء مثل هذه السرديات الموازية للسرديات المكرّسة عبر كتابات نيللي حنا المتخصّصة في تاريخ مصر في الفترة العثمانية، ثم لاحقاً في كتابات الباحث خالد فهمي حول عصر محمد علي ونشأة الحداثة في مصر، لكنها للأسف ظلّت محصورة في نطاقها النظري الضيّق وسط مجتمع ليس من صفاته أنه مجتمع قارئ إجمالاً.

الباحثتان عليا مسلّم ونيّرة عبد الرحمن قررتا الخروج بهذه القراءات الجديدة إلى نطاق أوسع، من خلال تأسيس مجموعة "احكي يا تاريخ" (الاسم كما هو بالعامية)، التي تنشط في طرح رؤية نقدية للتاريخ المصري الحديث، بمساعدة فريق متنوّع.

نظّمت المبادرة مجموعة من ورش العمل والمحاضرات التفاعلية لعديد من المشاركين متنوّعي التخصّصات والمهتمين بالسرديات البديلة للتاريخ؛ للتنقيب في تاريخ الأنفار -المصطلح الذي يستخدمه الباحث خالد فهمي- والاتكاء على التاريخ الشفاهي كأحد مصادر التأريخ الاجتماعي، إضافة إلى تدريب المشاركين على مناهج بحثية مختلفة مستعينين بالأراشيف والجرائد القديمة، كل ذلك من أجل تكوين رؤية تاريخية لا تعتمد يقينيات الرواية الكبرى بقدر ما ترفد روايتها الخاصة، وتكمل تجميع قطع الصورة "البازل" المعرفية المتنوعة.

المبادرة التي أسستها قاهريتان، تنشط في الأساس خارج القاهرة وتختص بدراسة تاريخ الهامش، بعيداً عن المركز المهيمن في العاصمة. وقد انعقدت الورشة الأولى منها في إحدى القرى النوبية في كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، وتركّزت المناقشات فيها على قضايا تهجير النوبيين بسبب بناء "السدّ العالي"، إلى جانب قضايا إشكالية أخرى في التاريخ المصري الحديث مثل "حريق القاهرة" و"حرب أكتوبر".

أما الورشة الثانية، والتي تنعقد في مدينة بورسعيد في الـ 21 من الشهر الجاري وتستمر حتى الـ 30 منه، فتركّز اهتمامها بشكل خاص على تاريخ المدينة المعروف بغناه منذ حفر قناة السويس في منتصف القرن التاسع عشر، وصولاً إلى العدوان الثلاثي عام 1956، وتطرح قراءة في قضية التهجير، ثم تتناول أخيراً تاريخ إنشاء المنطقة الحرة في المدينة.

بحسب القائمين على الورشة، فإن الاهتمام بالأحداث التاريخية هذه على وجه التحديد يأتي من "الظن السائد بامتلاكنا لمعرفة يقينية بخصوص تاريخ المدينة وظروف إنشائها" وذلك بغرض "الكشف عن تفاصيل بعض الأحداث التاريخية التي تاهت في زحام "صوت المعركة والسرديات الرسمية".

الغريب أن "صوت المعركة" الذي لا يعلو فوقه صوت، والذي يدهس كل سرديّة بديلة، ظلّ في مصر شعاراً مرفوعاً تتناقله الأنظمة بدءاً من الخمسينيات وحتى اليوم، وإن بتنويعات مختلفة: مقاومة الاستعمار مرة، وتحرير الأرض مرة، والحرب ضد الإرهاب مرّات ومرّات، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول الجدوى ومدى التأثير الذي يُمكن أن تحقّقه مثل هذه المبادرات، من خلق لحالة نقاش عامة حول التاريخ، سيما وأنها لا تمتلك منصّات كبرى، إضافة إلى أن عدد المشاركين القليل لا يعدو أن يكون صوتاً ضائعاً في زحام الأصوات الكبرى.

حول ذلك، تبيّن الباحثة عبد الرحمن، في حديث إلى "العربي الجديد"، أنها لا توافق على أولوية الكم في هذه المرحلة "لسنا جامعة، ولا أعرف حتى إمكانية اعتبار مثل هذا الأمر طموحاً لنا، إمكاناتنا محدودة وطاقاتنا أيضاً، لذلك يبدو اختيار عشرين مشاركاً في كل ورشة عدداً معقولاً، فما يهمنا هو انتشار الفكرة".

تؤكد عبد الرحمن على طرحها السابق من خلال فكرة إعادة نتاج الورشة على نحو شفاهي، إذ سيُقدّم عبر عرض حكائي مسرحي مفتوح للجمهور في آخر أيام الورشة، تقول عبد الرحمن "أظن أن التأثير يبدأ من هنا، من ذلك التداول الشفاهي الذي يحيي ما يميته التاريخ الرسمي".

ضجيج الأصوات الرسمية يظل هو الأكثر صخباً في ما نسمعه من صفحات التاريخ، صوت المنتصر أو القوي أو صاحب السلطان، لكن يظلّ للأصوات المفردة، أصوات الأنفار، طريقتها في الإعلان عن وجودها ودورها الفاعل، عبر حكاياتها الشفاهية وغنائها الشعبي وتاريخها المكنون في الصدور.


اقرأ أيضاً: مصر 2015: الحرب على الثقافة لا الإرهاب

المساهمون