يعيش المشهد الليبي، ما بعد انهيار مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقوات حلفائه، صراعا مكتوما في دهاليز العواصم الكبرى، وفي أوساط معسكر حفتر، شرق ليبيا، حيث يحاول حلفاؤه ضبط الأوضاع قبل خروجها عن السيطرة بعد تصاعد موجة الانشقاقات من قبل عسكريين وزعماء قبليين موالين له.
ويبدو أن فشل حفتر العسكري وانهياره المفاجئ أوقع حلفاءه في حرج كبير. ففي الوقت الذي تحاول روسيا، الواجهة الأولى لداعمي حفتر، عرقلة تقدم قوات حكومة الوفاق باتجاه سرت، والدخول في مفاوضات مع تركيا، حليف حكومة الوفاق الأبرز، من أجل الاتفاق على وقف لإطلاق النار، شكل الغياب الفعلي لحفتر عن معسكره في شرق البلاد عامل تهديد آخر قد ينذر بانجراف الأوضاع داخل أراضي سيطرته إلى مواجهات مسلحة.
ومنذ إطلاقه لما سماها "عملية الكرامة" في إبريل/ نيسان من عام 2014، اعتمد حفتر على الفصائل القبلية في شرق البلاد كقوام لقواته، قبل أن تتوسع جبهة مؤيديه القبليين لتشمل قبائل أخرى في وسط وجنوب البلاد، من بينها قبائل من أنصار النظام السابق، وأخرى من فصائل المعارضة التشادية والسودانية.
أبوغالية بديلا عن حفتر؟
وأكدت مصادر متطابقة، عسكرية وسياسية وبرلمانية ليبية، تحدثت لــ"العربي الجديد"، على وجود توافق إقليمي ودولي على ترشيح اللواء فرج أبوغالية بديلا عن حفتر، وبدء العودة لمحادثات اللجنة العسكرية (5+5) للخروج بمؤسسة عسكرية موحدة في البلاد ذات طبيعة دفاعية، يترأسها مجلس عسكري مؤلف من ستة ضباط.
وينتمي أبوغالية إلى قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها حفتر، وهو شخصية عسكرية بارزة في نظام القذافي، تولى العديد من المناصب، آخرها منصب نائب رئيس جهاز الأمن، قبل أن يعتقله الثوار في نهاية عام 2011 ويودع السجن، لكنه غادر ليبيا في منتصف عام 2018 بعد الإفراج عنه، وأقام في القاهرة منذ ذلك الوقت.
ورغم أن المشاورات التي تجري في كواليس عواصم ذات ثقل في الملف الليبي، من بينها القاهرة وأنقره وموسكو، لم تنته إلى إجراءات واضحة بشأن التوافق في الجانب العسكري، خصوصا في ما يتعلق بمدينة سرت، وسط البلاد، وقاعدة الجفرة، وسط جنوب البلاد، وما إذا كانتا ستشكلان النقاط الأخيرة التي ستقف عندها قوات "الوفاق"، إلا أن قرار القاهرة وحلفائها بإنهاء دور حفتر في ليبيا يبدو أنه جلب لها متاعب غير محسوبة حول إمكانية تفكك جبهة حفتر في شرق البلاد.
القبائل تستبق أي تغيير
وعلاوة على سعي واجهات قبلية تتصدر زعامة قبائل بارزة في شرق ليبيا، منها قبيلة العبيدات والعواقير والمغاربة، لاستباق أي تغيير، بعد اختفاء حفتر، بالتنسيق بينها للاستيلاء على المعسكرات المهمة في شرق البلاد، يبدو أن الفصائل المسلحة التي لا تزال تحافظ على ولائها لحفتر بدأت هي الأخرى في التململ.
وشهدت أجدابيا (150 كم غرب بنغازي)، مواجهات مسلحة لعدة ساعات بين مليشيا الكاني المنسحبة من ترهونة، والتي توجد في أجدابيا معسكرات لها، وبين قوة مكافحة الظواهر السلبية ومديرية أمن أجدابيا، بسبب خلافات بين أفراد القوتين، في الوقت الذي ألقت فيه مجموعة مسلحة غير معروفة القبض على اللواء كامل الجبالي، آمر المنطقة العسكرية الوسطى التابعة لحفتر، وفق مصدر برلماني رفيع من طبرق.
وأوضح البرلماني أن المجموعة المسلحة، والتي يبدو أنها على صلة بالمخابرات المصرية، ألقت القبض على الجبالي بعد أن كان في مهمة نقل أسلحة ثقيلة ومتوسطة من بنغازي إلى معسكرات تخضع لسلطة قبيلة العواقير في شرق بنغازي.
وأكد البرلماني، في حديث لــ"العربي الجديد"، أن ما لا يقل عن خمسة ضباط بارزين في صفوف حفتر هربوا خارج البلاد، فيما يجري ضباط آخرون من أمراء الكتائب والمعسكرات في مناطق أجدابيا ودرنة ومرتوبة وطبرق اتصالات مباشرة مع زعماء قبيلتي العبيدات والمغاربة.
ويرى الناشط السياسي الليبي عقيلة الأطرش، أن سياسة إقصاء حفتر من المشهد بشكل تدريجي تهدف إلى إتاحة الوقت الكافي لحلفائه لترتيب أوراقهم داخل معسكره، ومحاولة لملمة شتات إرث سياسته العسكرية غير الحكيمة داخل صفوف حلفائه القبليين.
وأوضح الأطرش، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن المفاوضات العسكرية والسياسية لا يمكنها أن تبدأ أو تخطو أي خطوة في ظل تشتت معسكر حفتر، لافتا إلى أن سعي رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح لأن يكون الشخصية السياسية الممثلة للشرق الليبي لا تزال متعثرة بسبب التباين حتى بين حلفاء حفتر الإقليميين والدوليين.
ولفت، في الوقت ذاته، إلى إمكانية أن تلعب القبائل الكبرى في شرق ليبيا دورا إيجابيا أو سلبيا بسبب نفوذها.
وتعتبر منطقة الهلال النفطي، وصولا إلى أجدابيا شرقا، منطقة نفوذ قبيلة المغاربة، فيما تسيطر قبيلة العبيدات على أقصى الشرق الليبي، الذي يبدأ من مدينة البيضاء (200 كم شرق بنغازي).
وتعتبر المنطقة الواقعة من المرج، مركز حكم حفتر العسكري، وصولا إلى الأجزاء الشرقية من بنغازي، مناطق نفوذ قبيلة العواقير، وتمثل العلاقة القلقة مع حفتر طيلة سنوات القاسم المشترك بين القبائل الثلاث.
انشقاقات وفوضى بمعسكر حفتر
ويرى الأكاديمي الليبي خليفة الحداد أن حلفاء حفتر، ولا سيما القاهرة، يسعون لإعادة مؤقتة لحفتر لضبط الأوضاع، مستشهدا بوجوده في الرجمة أثناء زيارة السفير الألماني أوليفر اوفتشاكيف له، الأربعاء الماضي.
والسبت الماضي، أعلن حفتر عن إعادة تشكيل غرف العمليات العسكرية الرئيسية وتكليف "ضباط أكفاء وقادرين على التفاعل مع المعركة ومتغيراتها"، مشيرا، في قرار نشرته الصفحة الرسمية لقيادة قواته، إلى أن "إدارة العمليات العسكرية ستكون بشكل أفضل في إطار خطة استراتيجية محكمة".
ويقرأ الحداد قرار حفتر بأنه عاد للواجهة بشكل مؤقت من جانب، ومن جانب آخر يكشف قراره عن صحة وجود انشقاقات وفوضى أمنية سعى القرار لضبطها بواسطة تعيين عسكريين جدد.
ولفت الأكاديمي الليبي إلى أن القرار لم يحدد مكان وشكل المعركة، ولا أسماء العسكريين كعادة حفتر، معتبرا أن القرار يمهد للإعلان عن شكل عسكري جديد يمكن أن تقبل به حكومة الوفاق كطرف مفاوض على طاولة محادثات (5+5) من جانب، ويمكن من خلاله إعادة الهيبة لقيادة حفتر بين الرأي العام في شرق البلاد، كخطوة لإرجاع الأوضاع لنصابها من جانب آخر.
وبحسب الحداد، فإن حلفاء حفتر يواجهون تحديا صعبا في طريق استمرار حفاظهم على مصالحهم في الملف الليبي، خصوصا في مواجهة إرث المليشيات المختلفة، خصوصا المنسحبة من غرب البلاد، والتي قد تشكل رفقة الفصائل العسكرية التي تخضع لسلطة القبائل جبهة مسلحة جديدة يمكنها أن تجر المنطقة لأتون حرب مفتوحة على غرار ما حدث في طرابلس.