ذكريات مريرة في سجون الأسد

09 يوليو 2015
هذه الجروح العميقة لم تبارح ذاكرتي (Getty)
+ الخط -
لم تقتصر الثورة على الرجال فحسب، بل كان للمرأة دور كبير فيها، ومنذ انطلاقة الثورة هبّت المرأة للمشاركة في التظاهرات وإسعاف الجرحى وتشييع الشهداء وإلقاء الخطابات، وفي بعض الأحيان حملن السلاح بجانب الرجال، ما جعلها تدفع أثماناً باهظة بسبب بطش النظام وإجرامه.

المرأة /تظاهرت/ أسعفت /جُرحت/ استُشهدت/ اعتُقلت، وأبشع ما حصل لها هو الاعتقال في أقبية وزنازين السجون من تعذيب وانتهاكات نفسية وجسدية. أذكرُ، من خلال تجربتي أنا ومجموعة من النساء اللواتي شاركن في التظاهرات منذ بداياتها، وكان لي الشرف أن أكون صاحبة أول خطابٍ بالثورة السوريّة. كان ذلك بعد مجزرة العمري التي تلتها تظاهرة نسائية جابت شوارع درعا تعزّي أمهات الشهداء.

تم اعتقالي مرتين، الأولى بتاريخ 22/6/2011 في فرع الأمن العسكري بدرعا، والثانية في أواخر شهر 11/2011، في الفرع الذي يُعرف باسم "215" في دمشق، حيث استوقفني حاجزٌ لجيش النظام على متفرق خربة غزالة في ريف محافظة درعا.

تم ترحيلي أنا وسلوى، ذات التسعة عشر ربيعاً، ورحاب الأم التي كان لديها خمسة أطفالٍ، بسيارة مدنية إلى "الفرع الأسود". في الفرع، شهدنا ساعات وأيام مريرة ثقيلة ثقل الأصفاد، وكان الوقت بطيءٌ للغاية، فالسنة هناك كأنّها ألف سنة ممّا تعدّون. تم اغتصاب سلوى ورحاب هناك وهُتكت أعراض الشباب أيضاً.


الأشدُ قسوةً كان تعذيب الشبان أمام الفتيات وتعذيب الفتيات أمام الشبان، ليزداد الأذى النفسي لكل منهم. كان ظلام "المنفردة" وبرودة جدرانها السوداء أرحم من منظر الدماء الملطخة على حائط التعذيب، وكانت أصوات المعذبين تتعالى كلٌّ بحسب طريقة تعذيبه.

أما النساء، فكان عقابهنَّ أبشع وأشنع، كانوا يأخذون الفتاة إلى إحدى الغرف التي تعود ربما للضباط، ويقومون بالاعتداء عليها مناوبة، وأحياناً يصلُ عددهم إلى خمسة أو ستة. كان في المعتقلات فتيات حملن في أحشائهن أطفالاً من هؤلاء المجرمين. وسبب هذا الانتقام البشع يعود أحياناً إلى أن أحد أفراد عائلة الفتاة ينتمي للجيش الحر فيقعُ العقاب عليها وتدفع ثمناً باهظاً. هناك تمرُّ الأيام قاسية، يتوقف الزمن عند ساعات التعذيب.

آهات المُعذَّبين تملأ أرجاء المكان، رجالاً كانوا أم نساءً. عندما كنت أسمعُ أصوات النساء، أهيّئ نفسي قائلة: حان دوري وما هي إلاّ بضع دقائق ويخرجوني من منفردتي، لتبدأ حفلة التعذيب التي كان أغلبها صعق بالكهرباءٍ و"شبح" من اليدين لساعات طويلة مريرة لينزعوا مني اعترافاً لا صحة له. أما تهمتي وذنبي الوحيد فهو أنّني ضمَّدتُ جرحاً نازفاً وأنّي وقفتُ في الساحات وصرخت بأعلى صوتي: "لا للقتل أيُّها المجرمون". ساعات تعذيبي هذه لم تكن أشد قسوة من عذابات وجراحات الثكالى واليتامى في الخارج، فأقول لنفسي: سأكون صامدة ولن أخذل أحداً. لكنَّ جرحاً عميقاً في ثنايا الروح لن يندمل أبداً، وهو رؤية الفتيات تُنتهك أعراضهنّ، والشباب تُهان كراماتهم. هذه الجروح العميقة لم تبارح ذاكرتي التي كانت تخونني راجعةً إلى تلك الأيام المريرة التي خضعت فيها للعلاج النفسي كي أشفى من أذاها.

نساء كثيرات خرجن من المعتقلات ويبحثن في طيات أيامهن عن بئر عميقة لتقوم كل واحدة منهن بدفن ذكريات المعتقل فيها، وفي أكثر الأحيان تكون مجبرةً على إخفاء ما جرى لها في معتقلات النظام، وخاصة إذا كانت تعرضت للاغتصاب، والكثيرات منهنّ لا يزال مصيرهن مجهولاً.

عندما فُتحت أبواب الحرية لي ولمجموعةٍ من النساء، لم تغمرنا فرحة عارمة، لأن الكثير من المآسي بقيت هنا داخل أقبية النظام. كيف سنفرح بحريتنا ولا تزال حرائرنا تخضعُ لبرنامج تعذيب يومي يُطبّق عليهنّ اليوم وغداً وبعد غد.

(سورية)
المساهمون