صرخة

19 نوفمبر 2015
بحر بوندي في سيدني، أستراليا (Getty)
+ الخط -
إن القبورَ كما المحار، يتحشرجُ في جوفِها الرّملُ ولا تشي بأسرارِها لحُرّاسِ الموانئ، تظلُّ منتظرةً جَزْرَ الحياةِ ومدَّ العدم لتلِجَ عُمقَ الأشياء. وتخبرَ الراحلين أن الزّبدَ ليس نتاجاً لقُبلةٍ محمومةٍ بين موجتين، بل رغوة شهقةٍ نفَقَتْ في فراشٍ ما، ما بين موتين وقابَ دمعتين أو أدنى من الوداعِ الأخير، تكسّرُ السفنُ ساريتَها وتمضي في كُنْهِ السوادِ بمجاديفَ مهترئة .. الموتُ لحظةٌ صادقة، لحظةٌ بيضاء تنمو فيها أغصانٌ خضراءُ مائلةٌ ... أغصانٌ يستندُ إليها اليتامى فلا تزلُّ قلوبُهم بغيرِ الحياة. أطفالٌ يفترشون الترابَ ويتوسَّدون حجراً وقد سخَّروا أحلامَهم الغضَّةَ لحراسةِ المقابر. يا الله، كم كانتِ الحجارةُ دافئةً، وكم كانت نفوسُ البشرِ باردةً عليهم. أطفالٌ كلما لسَعهم صقيعُ المُدن، وجرحتْ كبرياءَهم الألْسن، خرجوا في الدُّجى باحثين عن أسرَّةٍ بين قبْري والديهم ... لا أحَد يستوعبُ انتظارهم كما يفعلُ الحزن، ولا أحد ينفذُ إلى معنى النومِ بين ضريحيْن، ومراقبةِ تحليقِ أرواح الموتى كما يفعل الوحيدون. أطفال كلما سقطتْ في كفّهم حبةُ ملحٍ ساخنةً، قبضوا عليها كجمرةٍ وناموا، وكلما جاعوا قضموا أصابعهم، رسموا بئراً في الهواء وشربوا.

وحدهم المشردونُ لم يشكّوا أبداً في إخلاصِ الأرضِ لأكبادها التائهين والمشردين والمحرومين، كانوا يعرفون جيداً بأنها تفتح لهم أصقاعَها ملءَ حبّها لتجعلَ لهم من هضابِها وجبالِها وشجرها ملاذاً وملجأً..

حتى المقابرُ في حلْكةِ الوجع، باتَتْ سكَناً آمناً للحزانى، بطريقة ما، رغمَ الأصفرِ المخيفِ الذي يلتحفُ بها وبرغمِ العقاربِ السارِيةِ في جُحور العمر. إن الأطفالَ لا تخيفهم الحربُ أبداً، ولا تخيفهم الحرائقُ كما لا يخيفهم الموتُ في حدِّ ذاتِه، بل هم من يواجهونه بشجاعةٍ يفتقرُها الكبار.

هم لا يُساقون إلى الموتِ مرغمين، بل يذهبون إليه مبتسمين. الأطفالُ يحبّون تلكَ الخُضْرةَ المرتدّةَ في عيونِ الأحياء، ويعشقون جداً التراشقَ بالماءِ الحلوِ المنسكبِ من عين الله. كانوا يمزجُون الدمعَ بالسكّر، لتينعَ الغصونُ في قلوبهم، وترفرفَ في داخلِ كلّ منهم شجرةٌ طيبة. إن اليتيمَ حينما تُسَدُّ في وجهه السُّبُل، يستخلصُ من عوارضِ الدنيا أسباباً كثيرةً للحياةِ وللنجاة.

(تونس)

اقرأ أيضاً: رمل وفيض واحات

المساهمون