صرخة قلم

29 أكتوبر 2015
اللوحة لا تستطيع الكلام (Getty)
+ الخط -
في كونٍ فسيح يتحرك كل شيء بداخله بانتظام بالغ، يصرخ هو صرخة مدوية يسمعها كل شيء، عدا مخلوق واحد، ذلك المخلوق الذي يتجاهل كل مسار، ويكسر أي قاعدة، كأنما يريد أن يخرق تناغم العالم، يمشي مختالا بنفسه يطأ الأرض بكبر وخيلاء، كأنه نسي أنه قبضة من طينها، وأن جسده الذي يزهو به الآن لن يواريه إلا التراب. كان الصراخ متواصلا بلا انقطاع، لكنّ أحدا لا يجيب.


يلوم نفسه وليس له من الأمر شيء، يقول يا ليتني لم أصنع أو جف مدادي قبل أن أوضع في ذلك الموقف، يتمنى لو كان قلم عادي في يد طالب علم أو موظف أو مأذون يكتب عقد زواج أو حتى طلاق.

ينظر إلى المسجون خلف القضبان الحديدية وقد مُلئت عيناه بدموع ممزوجة بحسرة وانكسار، وجبينه الوضّاء ينطق ببراءته، ونور صدقه ينتشر في الآفاق، ليراه الأحياء والجمادات، إلا من كانت الغشاوة مسدلة على قلبه، فلم يعد يرى غير ما يمليه عليه هواه.

يرجو في كل لحظة أن ينكسر قبل أن يكتب حكما جائرا بيد صاحبه، يتوسل إلى أصابع القاضي التي تمسك به أن تفلته، أو تلقي به بعيدا، فتجيبه الأصابع في حزن وأسف على ما آل إليه حال كل منهما، وتصبّره ليوم تستنطق فيه بين يدي ربها على وعد بتبرئة القلم مما أكره عليه.

يصرخان معاً علّ صاحبهما.. يسمع، لكنه كان كدمية خشبية يحركها الأسياد بخيوط من مكان مرتفع كما يحرك هو أصابعه القابضة على القلم.

القلم ينادي مستنجدا بتلك اللوحة الكبيرة التي كتب عليها بخط ذهبي "العدل أساس الملك"، لكنها لا تجيب، فيكرر نداءه بلا فائدة، حتى سمع صوتا يكاد لا يميزه من شدة نحيبه، لقد كان صوت ذلك المسمار القديم الذي علقت عليه اللوحة من سنوات، يقول مدافعا بكاءه: أعتذر إليك أيها القلم، فاللوحة لا تستطيع الكلام، بعدما فقدت القدرة على النطق من كثرة صراخها ليل نهار.

كان يدعو بصوت متضرع أن يأكله الصدأ، فيصير عدماً، حتى ﻻ يرى مشاهد الظلم المتكررة مرة أخرى، الجميع يعلق آماله على يوم ينصب فيه الميزان، فيتمنى الظالم لو كان تراباً أو عدماً، لكن حكم العدل قد سبق عليهم، فتتملكهم حسرة وخزي على ما هم فيه، وهم يحسدون الجمادات التي كانوا بالأمس لا يعيرونها بالاً.

أوشك القاضي أن يصدر حكمه الجائر والقلم يصرخ وينادي بأعلى صوته، فتئن الجمادات من حوله لصراخه، وجميعهم يشكو حاله بلا فائدة.

يُحكم القاضي قبضة أصابعه ليكتب مصير البريء المسكين، بينما القلم يحاول البكاء علّ دموعه تمحو آثار الكتابة، يصدر الحكم بالإعدام، بينما يستسلم القلم في ألم، كأنه هو من يساق إلى حبل المشنقة.

(مصر)