موسكو تعيد كتابة نتيجة الحرب الباردة بدماء سورية

22 أكتوبر 2015
حرب في محاولة لإطفاء جذوة الثورة السورية (فرانس برس)
+ الخط -
على مدار التاريخ، ينظر إلى أي توسع روسي في حوض المتوسط على أنه محاولة للوصول إلى المياه الدافئة، طمعا في الحصول على مرفأ بحري لا يخضع للابتزاز السياسي لدولة من الدول، كما هو حال مضيقي الدردنيل والبوسفور في تركيا، ولا تعترضه أكوام الجليد، كما هي حال الملاحة شمال روسيا، إلا أن خضوع تركيا الحديثة إلى معاهدات ضمنت لروسيا والدول العظمى حرية المرور عبر البوسفور، بالإضافة إلى أن تطور وسائط النقل وتقدمها، قلل كثيرا من أهمية الوصول المباشر إلى "المياه الدافئة" بالنسبة للروس.


التدخل الروسي الراهن في سورية، الذي يتضمن العدوان على فصائل الجيش السوري الحر وكتائب المعارضة المسلحة، كان مفاجئا وغير متوقع، ليس بالنسبة للمحللين والمراقبين فحسب، بل حتى بالنسبة لدوائر القرار الغربي، كما برز ذلك في ردود الفعل الصادرة عن البيت الأبيض وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد انتهاك الأجواء التركية.

وعلى الرغم من أن روسيا دأبت، طوال سنوات الصراع العسكري السوري، على تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي لحليفها نظام الأسد، في المحافل الدولية، وكذلك مواصلة إرسال الأسلحة ضمن صفقات معلنة، فإنها لم تبد رغبة في الانخراط المباشر في الصراع، ولعلها كانت أبعد في مقاربتها لكيفية معالجة الأزمة السورية عن الحليف الإيراني، إذ بدا ذلك واضحاً في موافقتها على بيان جنيف الأول، الذي دعا صراحة إلى تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، لتحل محل نظام الأسد، وإن لم يتضمن البيان صراحة دعوة الأسد للرحيل أو تفكيك مؤسساته الأمنية، مما يفتح الباب للتساؤل حول حساباتها المستجدة في الولوج إلى الصراع السوري، وكذلك حسابات الأسد التي حولت وجهتها إلى موسكو بعد أن كانت طهران قبلتها الوحيدة.

حسابات الأسد
مع حلول موسم الهزائم العسكرية المتتالية التي لحقت بقوات الأسد منذ مطلع العام الجاري، لم يُخف النظام السوري، على المستوى الإعلامي، استياءه من التردد الإيراني في توفير الدعم الكامل لوضع حد لهذا التهديد المتنامي، الذي ترافق مع وصول الملف النووي الإيراني إلى مرحلة حاسمة، مما دفع طهران إلى الالتزام بسقف محدد للدعم الذي تقدمه لحليفها الأسد.

نظام الأسد انتهج استراتيجية عسكرية واضحة يقوم من خلالها بالتركيز على تعزيز السيطرة على المناطق الحيوية، التي تمثل خطوط الدفاع الأولى عن العمق الديمغرافي، وكذلك العمق الاقتصادي والاجتماعي العام، وهو ما اصطلح على تسميته بـ "سورية المفيدة"، مقابل عدم الدخول في معارك تستنزف ما تبقى من قدراته وموارده المتضائلة، وهي رؤية تتفق مع رؤية إيران، إلا أن الحدود الجغرافية لهذه الاستراتيجية بحسب رؤيتها أصغر بكثير مما يخطط له الأسد، وتقتصر على المناطق العلوية والحزام المحيط بها، وهي محافظات اللاذقية وطرطوس ومعظم ريف حماة ونصف ريف حمص والأحياء العلوية في هذه المدينة.

ونظرا لأن الرؤية الإيرانية لا تقيم اعتبارا لبقاء العاصمة دمشق تحت سيطرة الأسد، وهو ما صرح به المحلل السياسي المحسوب على إيران، أمير موسوي، غداة سيطرة المعارضة السورية على مدينة إدلب، فإن الأسد، الذي لم يقتنع بعد بحتمية الانكفاء في المناطق العلوية، ونظرا للكلفة الباهظة المتوقعة لمثل هذا السيناريو، فقد بحث في الخيارات البديلة عن "الوصاية" الإيرانية، ويبدو أنه قرر في نهاية المطاف اللجوء إلى الحليف غير المتحمس لدعمه ميدانيا، فلاديمير بوتين، عبر إغرائه بامتيازات غير مسبوقة، وهو ما يعني بالنسبة للأسد، الانتقال من الوصاية الإيرانية إلى الوصاية الروسية، وهو خيار يبدو معقولا بالنسبة لحاضنة النظام الشعبية، فضلا عن أنه يضمن دعما مستمرا لبقاء النظام حتى في العاصمة دمشق وبقية المناطق التي ما زالت تحت سيطرته.

حسابات بوتين
من جهته، يبدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقد دخل في رهان خاسر ومغامرة لا تختلف كثيرا عن مغامرة أفغانستان في عهد الاتحاد السوفييتي، على الأقل من وجهة نظر غربية، لكن ومن خلال النظر في الأهداف التي طاولتها الغارات الروسية، ومتابعة الإعلام الروسي المواكب للتدخل الجوي في سورية، يمكن استشراف الأهداف الرئيسية لهذا التدخل، التي لا تقتصر بالطبع على مجرد الاستجابة "الأخوية" لطلب الأسد ومحاولة إنقاذ نظامه المتهاوي.

وأشارت الضربة الأولى التي وجهتها الطائرات الروسية إلى "تجمع العزة"، الفصيل المنضوي تحت غرفة عمليات "الموك" التي تشرف عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها، إلى الهدف الأول والأهم للتدخل الروسي في سورية، وهو توجيه صفعة إلى النفوذ الغربي في هذا البلد، وإحداث انطباع بأن التدخل الأخير هو فاتحة استرداد النفوذ الروسي القديم، الذي تداعى بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990، وذلك على حساب النفوذ الغربي.

وروجت قناة "روسيا اليوم" الناطقة بالعربية مرارا، عبر تغطيتها الحدث، لمقولة أن الحراك العسكري الروسي، الأول خارج حدود ما كان يعرف سابقا بالاتحاد السوفييتي المتفكك، يمثل خطوة في إعادة رسم مشهد ما بعد الحرب الباردة، التي ظنت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، أنها هي الأطراف المنتصرة، بحسب الإعلام الروسي.

وبالنظر إلى أن التحرك الروسي الممهد والمرافق لحملتها الجوية لم يقتصر على إنشاء ثاني قاعدة عسكرية جوية روسية في سورية، في محافظة اللاذقية، مركز الثقل السكاني للعلويين، بل تعدى ذلك لإنشاء قواعد جديدة ومتعددة في محافظة حماة، وفي قلب عاصمتها، لتحل محل قوات الأسد والمليشيات الموالية له التي طالبتها بالمغادرة، فإن أهداف موسكو من هذا الحراك تبدو أوسع بكثير من مجرد حملة لإنقاذ الأسد، بل تؤسس لوجود طويل الأمد، عنوانه الأول: إعادة كتابة نتيجة الحرب الباردة بدماء سورية.

(سورية)
المساهمون