عالم عربي واحد تفرّقه مناهج "الرياضيات"

26 ابريل 2015
كتب الرياضيات في كل من السودان ولبنان (العربي الجديد)
+ الخط -
هل يمكن أن نعتبر أن السياسات التربوية، التي انبثقت عنها مناهجنا في دولنا العربية المختلفة، قد أدت إلى إحساس الجيل الجديد بالتشرذم وفقدان الارتباط والصلة بأمجاد الأجداد وتطلعات المستقبل؟ 
من المعروف أن هناك اختلافاً متوقعاً بين كل بلد وآخر على مستوى العالم ككل، ولكن وبما أننا نتكلم عن بلدان عربية فإنه من المتوقع أن نجد خيطاً عربيا أصيلاً يربط الطالب العربي بنظيره العربي في دولة أخرى، فلدينا من المشتركات ما يتيح لنا ذلك سواء على مستوى مبادئ التراث والدين الإسلامي، أو التراث العربي، وتطلعات الأمة العربية إلى بناء مستقبلها، وكذلك التحديات المشتركة المتمثلة في الصراع العربي الصهيوني.
للإجابة على السؤال الأول، وحفاظاً على عنصر الحياد، فسوف يتم التركيز في هذ التقرير على مقارنة مادة علمية من المفترض أنها "حيادية" وغير معبأة بالقيم السياسية أو الاجتماعية في الدول الثلاث المشار إليها سابقاً، ألا وهي مادة الرياضيات للصفوف من الأول إلى الثالث الابتدائي، بهدف التعرف على كيفية رسم التوجهات العامة للدولة من خلال الصور والألفاظ والمفاهيم، إضافة إلى الممارسات التي تتم في المدارس ومن قبل الهيئات التعليمية. ومن ثم يمكن قياس الفروقات بين الطلبة العرب في الدول الثلاث من حيث تعرضهم لمناهج دولهم المختلفة.

سورية: حصار في البيت وفي المدرسة
الصفحات التمهيدية لمادة الرياضيات للمناهج الرسمية لدولة سورية تؤكد أهمية ربط المادة، التي يتم تدريسها بالحياة اليومية للطلبة، ملقية الضوء على تأثيرات "ثورة المعلومات" على حياة الطلبة على جميع المستويات وضرورة مواكبة التطورات على هذا المستوى، وبصفة خاصة على مستوى سوق العمل.
وقد تم تحديد عناصر الاهتمام بمادة الرياضيات من أجل تحقيق أهداف تربوية معينة تتلخص في تمكين الطلبة من مهارة اتخاذ القرارات في حياتهم، وتعلم مهارة حل المشكلات، والمساهمة في بناء فهم ودراية جيدة بالحياة والعالم المحيط، ودعم الطلبة في أن يكونوا مساهمين فاعلين في المجتمع، والربط بين الرياضيات وباقي مناحي الحياة مثل الصحة والبيئة وعالم التكنولوجيا...إلخ.
من خلال العناصر السابقة، نرى بصورة واضحة أهمية الربط بين الحياة اليومية للطلبة وبين المادة التي يدرسونها، وذلك مقارنة مع المناهج الأخرى في السودان ولبنان.

تقوم المناهج السورية أيضاً بالتركيز في الصور والأمثلة، التي يتم سردها على الحياة الضيقة المحيطة بالطالب، مثل البيت والمدرسة، أي البيئة المحلية الضيقة، فمثلاً يتم تناول (مأكله – بيته – أصدقائه – مدرسته – الصف – ألعابه – أخوته) في إطار الأمثلة التي تتم الاستعانة بها، وقد يكون السبب في هذا الأمر هو تنوع البيئة في الدولة السورية بين البيئة الزراعية والأخرى الصناعية في المدن الكبرى، هذا إضافة إلى المدن الساحلية والمناطق الجبلية.
هذا في مقابل افتقار الصور والأمثلة والمفاهيم المتضمنة إلى الإشارة إلى العالم الواسع الخارجي إلى حد كبير، فلم نلاحظ وجود أية إشارة لدول أو حضارات أو بيئات أو ثقافات أخرى، وكأن الطالب يعيش في معزل عن الحياة الواسعة التي حوله.

إلا أن المنهج السوري تميز بأمر افتقرت إليه المناهج الأخرى في السودان ولبنان، وهو المحاولة الجادة والحثيثة في دمج أولياء الأمور في العملية التعليمية، فكل درس ووحدة مذيلة بتوجيهات للوالدين للطريقة والأسلوب الذي يستطيعان من خلاله مساعدة الطالب على فهم أو هضم المادة العملية التي يدرسها في الصف، ويتم سرد هذه التوجيهات بصورة مبسطة وبجمل قصيرة وفي كثير من الأحيان لا يتم إغفال جانب "التعلم باللعب أو المرح"، بمعنى اقتراح أنشطة تعليمية مرحة يمكن تطبيقها في البيت.
في منهج الرياضيات السوري أيضاً، وجد أن اللغة المستخدمة هي اللغة العربية الفصحى المبسطة، كما لوحظ وجود اهتمام واضح بموضوع اللغة ويمكن استنتاج هذا من خلال المساحة المخصصة أسفل كل درس والمكرسة لشرح الألفاظ والمصطلحات الجديدة المستخدمة في الدرس.

الأمر الأخير، الذي وجد فيه اختلاف واضح بين منهج الرياضيات في سورية والمناهج للمادة نفسها في كلٍّ من لبنان والسودان هو اعتبار كل وحدة قائمة بذاتها يتم الامتحان فيها من خلال امتحان الشهر، ولا يتم الرجوع إلى هذه المادة العلمية مرة أخرى، إلا في بعض الحالات الضرورية، لذا تفتقر المادة إلى دمج المفاهيم والمعارف ببعضها بعضاً، ومثال على ذلك يتم تناول مبادئ الهندسة التي يتعلمها الطالب في هذه السن المبكرة (مثل استخدام المسطرة) بمعزل عن المعارف الأخرى مثل الجمع والطرح والضرب والقسمة.

السودان: الانتماء إلى نهر النيل
خلال الحقبة الأخيرة، لوحظ أن مؤسسات التعلیم فى السودان حققت كثيرا من النجاحات، كان أبرزها رفع نسب الاستیعاب في المؤسسات التعليمية على مختلف مستوياتها، فقد بلغ عدد مدارس التعلیم الأساسي 13 ألف مدرسة، وأكثر من 1600 مدرسة ثانوية مع نهاية عام 2002. إلا أن المؤشرات نفسها تشير إلى التحدي الكبير الذي تواجهه الحكومة في زيادة نسبة الاستيعاب فما زال هناك 46% من الطلبة في سن المرحلة التأسيسية خارج المنظومة التعليمية.
ويلحظ القارئ للاستراتيجية التربوية لدولة السودان بصورة سريعة المنطلقات الأساسية والموجهات الحاكمة التي غلفتها، فالسودان وهو یتطلع إلى صیاغة الفلسفة والأھداف التربویة، التي تحكم مساره في ربع القرن الحادي والعشرین یستند إلى موروثه التربوي وهو موروث قیمي ودیني يركز على ترسيخ العقيدة والقيم الدينية في ظل التطلع لبناء الشخصية المتكاملة.
وتكتنف هذه الغايات العديد من التحديات أبرزها الحاجة إلى معلمين أكفاء على دراية كبيرة بكيفية الموازنة بين القيم الراسخة للمجتمع، المستمدة من المصادر الدينية والحضارة المحلية، وبين الحياة في ظل العولمة والتحديات الخارجية، وبصفة خاصة الثقافية.
وتعد الغاية التربوية المتعلقة باكتساب مهارات التعلم الذاتي، حاضرة بصورة كبيرة في مناهج المرحلة التأسيسية الخاصة بمادة الرياضيات، فكل المسائل الرياضية والشروحات تتم بكثير من التفصيل حتى أن المتصفح للمنهج يصل لاستنتاج أن المناهج تم تصميمها بحيث يتم استيعابها من قبل الطلبة، دونما الرجوع إلى المعلم أو إلى الأهل، فهناك شرح مفصل لكل خطوة بالصور وبالكلمات تارة وبالأرقام والأمثلة تارة أخرى، قد يكون هناك تفسير منطقي لهذا الأمر ألا وهو إدارك الحكومة النقص الكبير في الكادر التدريسي في كثير من المناطق وبصفة خاصة النائية منها والأطراف.

أما تعزیز الانتماء الدیني والوطني، وربط الطالب ببيئته العربية والأفريقية، فمن الأمور الواضحة التي لا تخطئها العين، فمادة الرياضيات لطلبة الصف الأول الابتدائي على سبيل المثال تم دمجها بصورة كاملة في مادة اللغة العربية، فليس هناك كتاب أو منهج منفصل للمادة، وبالتالي يتم تدريس اللغة من تعلم لمهارة القراءة أو الكتابة بالاستعانة بالألفاظ والمصطلحات الخاصة بمادة الرياضيات (المربع – الخط – الدائرة – الأرقام...).

هذا بالإضافة إلى الصور المستخدمة في كافة صفوف المرحلة التأسيسية المستوحاة من البيئة السودانية الزراعية والرعوية، فتكثر صور مثل النخيل والبقر والماعز والمساجد والنيل، بينما لم يستدل على صور مستوحاة من عالم التكنولوجيا مثلاً، فبينما حاولت مثلا مناهج سورية بصورة متواضعة ربط الطالب بعالم التكنولوجيا من خلال الاستعانة بشخصيتين من الفضاء الخارجي، كما إن المواد الداعمة لعملية التعلم مستوحاة من البيئة الأفريقية فيتم تشجيع الطلبة على استخدام الخرز لتعلم عمليتي الجمع والطرح.

لبنان: العالمية وما بعدها
بالرغم من المحاولات المضنية لإيجاد الاستراتيجية الوطنية الجامعة، التي ترسم السياسات التربوية لدولة لبنان، إلا أن أي متصفح لمناهج الرياضيات للصفوف التأسيسية الأولى بلبنان قد يلاحظ أنها على عكس الدول المحيطة بها في سورية، الأردن، فلسطين، والعراق، فهي تقوم بتدريس المادة باللغة الإنجليزية بصورة أساسية إلا أنها متاحة أيضاً بالفرنسية والعربية ولكن يتم الاستعانة بالمناهج المصممة باللغة الإنجليزية بصورة كبيرة. وهذا يعتبر اختلافاً كبيراً وجوهرياً بين المناهج في لبنان والدول العربية الأخرى ليس فقط لأنه انعكاس على اهتمام الدولة بموضوعات الهوية والانتماء إلى العالم العربي، ولكنه من ناحية أخرى يعكس اهتمام الدولة بتمكين الطلبة من لغة ثانية مختلفة عن اللغة الأم في سن مبكرة، ويرجع بعض الباحثين السبب الحقيقي وراء ذلك يعود إلى ضعف الدولة وعدم سيطرتها على كافة المدارس بصورة كاملة وشاملة مثلما هو الحال في الدول العربية الأخرى، فكثيرا ما يوصف القطاع التعليمي في لبنان بأنه قطاع ثنائي تتنازع فيه قوى كل من القطاع الخاص والقطاع الرسمي، فيلعب القطاع الخاص والجمعيات الطائفية الدور الأكبر في توفير المدارس والمؤسسات التعليمية في لبنان.

من ناحية أخرى نجد أن السمة العامة التي تربط بين المناهج في لبنان يمكن وصفها بالجنوح نحو "الانفتاح وإعلاء قيم الاندماج مع العالم الخارجي بما يحقق التقدم وبناء مجتمع المعرفة"، والمقصود بالانفتاح هنا هو بناء التوجهات والمهارات التي تسمح أن يتقبل الطلاب الأفكار والوسائل بل والقيم الوافدة والتأقلم معها بصورة سهلة، وبالرغم من أن مثل هذه المناهج تحتوي على احتمالية الانسلاخ من القيم الراسخة للمجتمع وفصل الطالب عن بيئته والإخلال بقيم الانتماء وحب الوطن، إلا أنها تساعد على عملية التأقلم وقبول الآخر والقدرة على تقبل التغييرات السريعة التي تحدث في المجتمع، وقد يكون هذا أمراً مناسباً لدولة بمثل التعددية الطائفية والدينية الموجودة في لبنان. ومن أجل ذلك نجد المنهج مليئاً بالصور والأمثلة والقصص والمسائل المستوحاة من البيئة الواسعة الخارجية فهناك مثلا صور لبرج إيفيل في فرنسا ولأهرامات مصر وجبال الكونغو وجزر اليابان.
كما تمت الاستعانة، لشرح المسائل الرياضية، بعدد من الشخصيات الكرتونية المرسومة وكل شخصية ترمز لبيئة أو طائفة معينة فهناك الأسماء العربية والإفرنجية، وهناك ما يوحي بأنه أوروبي وهناك الأفريقي والعربي.

أما الملاحظة الثانية الخاصة بمنهج الرياضيات اللبناني، فتمثلت في طريقة عرض المسائل الرياضية، فعلى عكس السودان لا تحتوي على شروحات تفصيلية تاركة للطالب ومعلمه اختيار طريقة الحل التي تناسبه، كما أن هناك مراجعة مستمرة في كل وحدة لما تم تعلمه في الوحدات والدروس السابقة، بحيث يكون الامتحان شاملاً لعدد من المفاهيم والمعارف التي تم تحصيلها على مدة زمنية مطولة.

يمكن ملاحظة أيضاً الجودة العالية للكتب والصور، سواء من ناحية الطباعة أو الاهتمام بالألوان، على عكس كلٍّ من السودان وسورية، حتى أنها تقترب من كتب الدول الغربية.
كما أن هناك اهتماماً بالتعلم التعاوني والتعلم المشترك بين الطلبة بعضهم بعضاً، ويتم النظر لعملية التعلم على أنها عملية بنائية وليست منفصلة لا عن المجتمع المحيط ولا منفصلة عن المعارف التي تم اكتسابها في المراحل التعليمية السابقة، وفي نهاية الأمر ومن خلال كل درس ووحدة يتم تذكير الطلبة بصورة أو بأخرى بأنهم أولاد "ثورة المعلومات وعالم التكنولوجيا" سريعة التطور.

اختلاف حتى الموت
يمكن تلخيص قدر الاختلاف بين السياسات التربوية وانعكاسها على مناهج الرياضيات في دول العينة الثلاث، التي تم الرجوع إليها من قبل كاتبة هذه السطور، فيما حدث بعد ثورات الربيع العربي، خصوصا ما يتعلق بالثورة السورية وأزمتها الممتدة منذ أربع سنوات، وتشتت مئات الآلاف من السوريين بين الحدود المختلفة.

فبالرغم من محاسن الاهتمام بأمر اللغة العربية في المناهج السورية، إلا أن هذا الأمر تسبب في مشاكل جمة للاجئين السوريين في دولة لبنان (الجارة القريبة)، حيث يتم تدريس مادة الرياضيات ومادة العلوم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، مما أدى إلى وجود عائق لالتحاق السوريين اللاجئين بالمدارس اللبنانية وتعثرهم الدراسي حتى أخذت بعض المنظمات العالمية المعنية بأمر اللاجئين وتعليمهم، كاليونسكو، بالتفكير في تصميم منهاج كامل يخص السوريين اللاجئين لحل مشكلة اللغة واختلاف المناهج الدراسية من بلد لآخر، حتى وإن كان بلداً عربيّاً. هذا إضافة إلى ما أظهرته بعض الدراسات من وجود سبب آخر لعدم التحاق السوريين اللاجئين بأي من مدارس لبنان وهو "صعوبة المنهج اللبناني" وتطوره إذا ما قورن بالمنهج السوري.

المساهمون