ملفات مسكونة بالأشباح

16 ديسمبر 2014
+ الخط -
يعود بك معرض "ملفّات مسكونة بالأشباح: سجلات مكتب تحسين النسل" حال دخولك إلى غرفه، إلى العام 1924 في الولايات المتحدة. وهو العام الذي سنّت به الولايات المتحدة واحدا من أوّل القوانين الشاملة للحدّ من الهجرة من مناطق و"أعراق" بعينها. 

يشغل المعرض مساحة غرفتين صغيرتين، تتوزع داخل إحداها ثلاث طاولات داكنة من شجر البلوط، تنتشر فوقها ملفّات وكتب وأدوات شخصية؛ نظارات طبيّة وغليون وعود كبريت أسود مرمي على إحدى الطاولات.

أمّا الطاولة الثانية، فتخرج من أحد جواريرها المفتوحة كفوف نسائية. مددتُ يدي لأتحسّسها، إذ عند دخولي، قالت لي المشرفة، قبل أن تدلّني صوب الغرفتين، إنه يمكنني لمس كلّ شيء بالمعرض.

يمكن للزائر أن يجلس على أيّ من الكراسي، وأن يتوجّه إلى أي من خزائن الملفّات، ليفتحها ويتناول ما يريد منها، ويجلس إلى إحدى الطاولات وكأن هذا مكتبه، وأن يتصفح بالملّفات. ‬
 
فجأة، سمعتُ وقع أقدام شخص، ربما كان مثلي يتجه إلى أحد المكاتب ليقلّب الملفّات. لكن عندما التفّتُ حولي، لم أرَ أحداً! يمكنني أن أسمع وقع الأقدام وحركة الأوراق، من حين إلى آخر، من سماعاتٍ في الصالة الصغيرة لا يمكن رؤيتها. هذا الشعور بـ "العادي" و"المألوف" هو ما أراد القيّمون على المعرض إعطاءه للزائر "بغية تسليط الضوء على إحدى الحقب السوداء من تاريخ الولايات المتحدة"، كما قال لي نوا فولر، أحد القيّمين. 

إنه العام 1924، حيث أقرّت الولايات المتحدة أوّل قانون هجرة شاملٍ، للحدّ من أعداد المهاجرين إليها من العرب واليهود ومن شرق أوروبا وجنوبها (كالطليان مثلاً) وإفريقيا والهند وبعض المناطق الآسيوية، مقابل تفضيل الهجرة من شمال أوروبا وإنجلترا تحديدًا. إنها الفترة نفسها التي وصلت فيها دراسات "تحسين النسل" ”Eugenics“ إلى إحدى ذرواتها قبل أن يطبّقها النظام النازي في ألمانيا ببشاعةٍ أكبر.

أدّت دراسات "تحسين النسل" والمكتب التابع لها، دوراً مؤثّراً في تلك الحقبة وفي سنّ القوانين العنصرية، وهو ما يحاول المعرض استعادته بطريقة مبدعة، لتوعية المواطنين عن فترة لا يعرف عنها الكثيرون في الولايات المتحدة شيئاً وقد لا يريدون تذكّرها كما قال لي نوا. 

ولكن ما هي الأساليب التي استخدمها المكتب، بغية الحدّ من وجود المجموعات غير المرغوب فيها، وصُنفت باعتبارها أقلّ ذكاءً وصحّة وأنها تحمل جينات سيئة يجب ألا تختلط بجينات "الأنجلو ساكسون"؟ حين طرحت السؤال، قال لي نوا: 

قال نوا: "الطريق الأوّل هو القوانين التي تحدّ من عدد القادمين من مناطق معينة، كما في قانون 1924. ولكن ما الذي يمكن فعله بخصوص أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة وينتمون إلى تلك المجموعات؟ الحل كان بالنسبة للمكتب قوانين "العقم الإجباري"، أمّا الطريقة الثالثة فقد كانت ببساطة حبسهم أو وضعهم في مصحات نفسية وسجون". 

‫على إحدى الطاولات التي أجلس إليها، أجد أداة حادّة غريبة الشكل، كبيرة الحجم، لا أدري في ماذا كانت تستخدم. ربما لفحص تلك الأجساد المهاجرة القادمة إلى "بلاد الميعاد". أفكّر بوحشية "العقم الإجباري"، واتخاذ الدولة أو شخص ما أو مؤسسة قرارًا يقضي بأنك لا تصلح لإنجاب الأطفال! أستفسر عن الموضوع، فيقول نوا: "بدأ سنّ قوانين "العقم الإجباري" في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن العمل بها أو تبنّيها من قبل الولايات المتحدة، بدأ بحدود عام 1910 في ولاية أنديانا وبعدها كاليفورنيا، ثمّ لتتبناه 33 ولاية أميركية.

المخيف في الموضوع، أنه وبعد إغلاق المكتب عام 1939، وبعد اكتشاف فظائع النازيّة والرغبة بالابتعاد عنها، بقيتْ قوانين العقم الإجباري سارية المفعول في الولايات المتحدة، كما يشرح لي نوا مضيفاً بصوتٍ يبدو لي فيه نوعٌ من الحزن والدهشة، لكأنّه يكتشف الأمر للمرّة الأولى، إذ لعلّ الفظاعات البشرية لا تتوقف عن إدهاشنا: "لقد تمّ إجبار حوالي 65 ألف شخص على إجراء عمليات عقم، وقسم كبير من هذه الأوامر جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرّت حتى منتصف الثمانينيات. أوامر صدرت عن عاملين اجتماعيين، قضاة، وغيرهم. استغلّوا القوانين القديمة ضدّ الفقراء، وضدّ أشخاص من تلك المجموعات، أو ضدّ من رأوا أنه غير مؤهل لاستمرار جيناته". 

‬أصابني الغثيان، وأنا أفكّر بما جرى. لكنّ المكان حولي موحٍ بشكلٍ غريب، صدّقت كلّ ما حولي، وسألت نوا عن دافعه لعمل المعرض، فقال لي: "أحد الأسئلة التي طرحناها على أنفسنا هو كيف يمكننا أخذ مادة تحتوي على ملفّات فقط وغالباً ما تكون ”مملّة“ للجمهور العريض، ووضعها في مكان أو قالب مثير، وفي الوقت نفسه التعامل مع الموضوع بطريقة عميقة". 

الآن فهمتُ لِمَا قرّر نوا وزملاؤه خلق جو "حميم" لمكتبٍ مشابه لتلك الحقبة، من دون أن يكون مطابقًا. الشيء الوحيد الأصلي هي الملفات التي تمّ اختيار بعضها ونسخها بحيث يمكن للجمهور استخراجها ولمسها وقراءتها. أمّا الأثاث بكامله، باستثناء خزائن الملفّات، فقد حصلوا عليها من سوق بيع الأثاث المستعمل. 

أجول بنظري في المكتب من حولي وأقف عند خزائن الملفات التي وجدها القائمون على المعرض مصادفةً، أتحسسها. لقد لمستها أيضاً تلك الأيدي التي قرّرت مصائر الآلاف واستغلّت القانون لاقتراف الجرائم. أشعر بقشعريرة تأخذ مهاجرة مثلي من مكان آخر، إلى التفكير بشعوبها التي تقبع تحت دكتاتوريات أو احتلال عسكري وكلّ الأفعال المشينة وخروقات حقوق الإنسان ترتدي قناع القانون. أي علاقة هي بين القانون، إذاً، وبين الظلم، لا في الدكتاتوريات فحسب، بل في الأنظمة الديمقراطية أيضاً، مع أخذ الفوارق بنظر الاعتبار؟ 

أترك البناية الصغيرة، التي لا تشبه بنايات نيويورك الضخمة، خلفي. بعد قليل وعلى بعد أقلّ من عشر دقائق مشياً سيتجمع المحتجّون على الأحكام الأخيرة التي صدرت بإسقاط التهم ضدّ شرطي أبيض قتل مواطناً أسود أعزل. 

أتذكر كلمة نوا عن المعرض "يمكن للعمل الفنّي أن يخلق تجربةً عاطفية للمتلقي بغية فهم أحداث تاريخية معقّدة. إن ما نراه اليوم من جدل حول "الأعراق" في الولايات المتحدة، لا يمكن فهمه إلا إذا حفرنا في تاريخنا عميقاً، على الفن أن يُمكّن الزائر من خوض هذه التجربة العاطفية لربط الماضي بالحاضر".


المساهمون