أملاك "الغائبين" ما زالت حاضرة

05 يونيو 2016
وادي الصليب في حيفا، تصوير: محمد بدارنة (2008)
+ الخط -

من أكثر العبارات تزويراً في تاريخ الصهيونية في فلسطين عبارة "أملاك الغائبين". ويُقصد بهذه العبارة أملاك الفلسطينيين التي استولى عليها الاسرائيليون غداة نكبة 1948. وبهذا المعنى فإن الفلسطينيين ليسوا غائبين عن بلادهم، بل هم مهجّرون قسراً وبالقوة العسكرية.

وحتى سنة 1947 لم يكن لإسرائيل، كما هو معروف، أي وجود مادي أو قانوني. لكن، في تلك السنة بالتحديد، قام اليهود المهاجرون إلى فلسطين بطريقة غير شرعية، وممن لا يحملون جنسية البلاد، بحمل السلاح، واستولوا على مساحات كبيرة من فلسطين، وأعلنوا في 14/5/1948 قيام "دولة إسرائيل" بدعم مكشوف من الولايات المتحدة التي أمدتهم بقرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29/11/1947، الأمر الذي مكنهم من الاستيلاء على أراضٍ جديدة، وطردوا منها سكانها الفلسطينيين الذين بلغ عددهم آنذاك نحو 850 ألفاً... وهكذا نشأت قضية فلسطين.

وقضية فلسطين هي إذاً النتيجة المباشرة للصراع الدموي بين السكان الأصليين لفلسطين والحركة الصهيونية التي هي حركة كولونيالية إحلالية مارست وتمارس الاستيلاء على الأرض كعملية من عمليات "بناء الأمة الاسرائيلية ودولتها القومية".

الأرض هي العنصر الحاسم في تحويل اليهود من جماعة مؤمنين متناثرين إلى شعب. وقد عمل آباء الحركة الصهيونية ومؤسسو إسرائيل على إقامة علاقة عضوية بين المهاجرين اليهود والعمل الزراعي. وكانت صورة دافيد بن غوريون وهو يقود المحراث الآلي في مستعمرة "سديه بوكير" ذات رمزية كبرى في ستينيات القرن المنصرم.

ولعل قانون انتقال الأراضي الذي أصدره المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل في أيلول/ سبتمبر 1920 كان تمهيداً لانتقال الأراضي الفلسطينية احتيالاً وقسراً إلى اليهود المهاجرين. وبناء على هذا القانون تمكنت الجمعيات اليهودية من شراء أراضي وادي الحوارث ومرج ابن عامر بعدما كانت القوانين العثمانية تمنع انتقال الأراضي إلا لمن كانت تبعيته عثمانية.


الاستيلاء على الأرض
ما إن اندلعت الاشتباكات المسلحة بين الفلسطينيين وقوات الهاغاناه غداة قرار التقسيم في سنة 1947، حتى بدأ سكان الكيبوتسات يستولون على الأراضي الفلسطينية، وسارعوا إلى الاستيلاء على الحقول العربية التي راح أصحابها العرب يهجرونها جراء المذابح المتمادية، ثم قاموا بجني المحاصيل لحسابهم.

وحين بدأت القرى العربية تتساقط شرع المستوطنون في تسييج أراضي القرى العربية المجاورة للكيبوتسات، ثم ضموها إلى نطاق مستوطناتهم. وجراء حمى الاستيلاء على الأراضي أنشأت الهاغاناه في آذار / مارس 1948 "لجنة الأملاك العربية" التي تحولت إلى "دائرة الشؤون العربية".

ومع اتساع حملات التهجير القسري للفلسطينيين من بيوتهم وممتلكاتهم، أُنشئت في نيسان/ ابريل 1948 هيئة مدنية دُعيت "دائرة الأملاك العربية المتروكة" برئاسة غاد ماخنس وعضوية موشى ماخنس ويوآف تسوكرمان وعزرا دانين ويتسحاق غفيرتس.

وبسبب وجود لجان مدنية وعسكرية متعددة تتعامل مع الأملاك التي هجرها أصحابها، بادرت الحكومة الاسرائيلية الموقتة إلى إنشاء لجنة وزارية لهذه الغاية في تموز / يوليو 1948 مؤلفة من: دافيد بن غوريون (رئيس الحكومة) وموشي شاريت (وزير الخارجية) وأليعيزر كابلان (وزير المالية) وبيخور شالوم شطريت (وزير الأقليات) وفيليكس روزنبلات (وزير العدل) وأهارون تسيزلينغ (وزير الزراعة).

وكان "قانون الأموال المتروكة" صدر في 21/6/1948 لغاية وحيدة هي إضفاء طابع قانوني على مصادرة الأراضي المهجورة، ووقف المصادرات الارتجالية، وتعزيز سيطرة الحكومة الموقتة على السكان.

بعد ثلاثة أيام فقط، أي في 24/6/1948، صدر "قانون المناطق المتروكة" ليعرِّف هذه المناطق بأنها "كل مكان تمت السيطرة عليه أو استسلم للقوات المسلحة، أو تركه سكانه كلياً أو جزئياً"، وهذا يعني أن فلسطين كلها صارت "مناطق متروكة". وفي 15/7/1948 عيّن وزير المال أول قيّم على الأموال المتروكة ويدعى دوف شفرير، وباشر هذا القيِّم مهماته بعد يومين على احتلال مدينتي اللد والرملة.

وفي خريف 1948 نُقلت دائرة الأموال المتروكة من وزارة الأقليات إلى مكتب القيّم على الأموال المتروكة، ثم صدرت "أنظمة طوارئ خاصة باستغلال الأراضي البور" في 11/10/1948.

وتحتل "أنظمة الطوارئ" مكانة القوانين، والقانون الجديد يسمح لوزير الزراعة بأن يعتبر الأرض غير المزروعة "أرضاً مبوَّرة"، وأن يأمر بالاستيلاء عليها لزراعتها. ويشير تعدد القوانين الخاصة بالأرض وسرعة إصدارها إلى أهمية الأرض ومركزيتها في السياسة العسكرية الصهيونية غداة قيام دولة اسرائيل.


أموال الغائبين
في 22/ 12/ 1948 صدرت "أنظمة طوارئ خاصة بأموال الغائبين". وهذا القانون يعتبر أي شخص فلسطيني غائباً إذ كان في 29- 11-1947 (تاريخ صدور قرار التقسيم رقم 181) مقيماً في إحدى الدول العربية، وللدولة الحق في مصادرة أمواله. وأنشئ لهذه الغاية مكتب جديد حلّ في مكان "القيِّم على الأملاك المتروكة"، وصار يدعى "القيِّم على أموال الغائبين". ولم يطل الأمر كثيراً، فصدر "قانون أموال الغائبين" في 14- 3- 1950، وهو تطوير لأنظمة الطوارئ الخاصة بأموال الغائبين.

وهذا القانون جعل "القيم على أموال الغائبين" المالك الشرعي لجميع أملاك الغائبين، وأجاز له بيع تلك الأملاك إلى هيئتين: هيئة التطوير والإنشاء والصندوق القومي اليهودي. وقد عرّف هذا القانون الغائب على أنه "أي شخص كان بين 29- 11-1947 و 14- 5- 1948 مالكاً لأي ملكية أو منتفعاً بها أو واضعاً اليد عليها، أَكان من رعايا الدول السبع المحاربة (سورية، مصر، لبنان، الأردن، العراق، اليمن، السعودية)، أو مواطناً فلسطينياً غادر مكان إقامته المعتاد في فلسطين إلى مكان ما خارج فلسطين قبل 1- 9 - 1948، أو غادر إلى منطقة ما في فلسطين تسيطر عليها قوات حاربت القوات الاسرائيلية".

والواضح أن الهدف الرئيس لهذا القانون هو منع عودة الفلسطينيين اللاجئين إلى أراضيهم التي تركوها في حرب 1947-1948. وبموجب هذا القانون صودرت أملاك الفلسطينيين والعرب في نحو 300 قرية مهجورة أو شبه مهجورة التي قُدرت في المرحلة الأولى بنحو 3،250 مليون دونم في الأرياف، علاوة على نحو 25 ألف مبنى وأحد عشر ألف محل تجاري في المدن.

وبهذه الغنائم صار القيِّم على أملاك الغائبين أكبر مالك للعقارات في فلسطين المحتلة التي كانت تزداد تباعاً كلما توسعت عمليات المصادرة. ففي أوائل سنة 1952 كان لدى القيِّم نحو 40 ألف مبنى تحت سيطرته، فضلاً عن 7880 مؤسسة تجارية.

وكانت جميع الحقوق التي كان يتمتع بها الغائب تنتقل تلقائياً إلى القيّم على أملاكه بما في ذلك إدارة الأعمال التجارية أو تصفية الأعمال أو حل الشركات. أما الدخل الناجم عن تأجير العقارات فكان يذهب إلى هيئة التطوير التي تنفقه بدورها على توطين المهاجرين اليهود.

وبصدور "قانون نقل الأملاك إلى "هيئة التطوير والإنشاء" في سنة 1950 صار ممنوعاً نقل الأراضي إلا إلى الدولة أو إلى الصندوق القومي اليهودي (كيرين كاييميت ليسرائيل) الذي مُنح بقانون صدر في سنة 1953 مكانة مستقلة كمالك للأرض نيابة عن الدولة. وكانت مهمة هذا الصندوق إخفاء بقايا فلسطين، وجعلها غير مرئية بغرس أشجار الغابات فوقها وتغيير أسماء الأماكن.

قُسِّمت أملاك الغائبين إلى ثلاث فئات: أملاك اللاجئين الغائبين؛ وأملاك الفلسطينيين الذين بقوا في فلسطين؛ وأملاك العرب غير الفلسطينيين. والفئة الثالثة استولى عليها "القيّم على أملاك الغائبين" فوراً بصفتها "أملاك عدو".

وما إن فرغت الهاغاناه من تنفيذ عمليات الطرد (الترانسفير) عبر الحدود، حتى شرعت في تطبيق عمليات الطرد إلى الداخل، فنقلت بالقوة سكان قرية إقرت إلى الرامة في 5- 11- 1948، ونقلت أهالي كفر برعم إلى الجش في 15-11-1948، وطردت سكان كفر عنان في 4-2-1949، وطردت 700 مواطن من كفر ياسيف في 28/2/1948، ورحّلت سكان قرى الخصاص وقيطية والجاعونة إلى نواحي صفد في 5-6-1949، وسكان الغابسية إلى قرية الشيخ دنون في 24-1-1950... وهكذا.

وكانت الأراضي المصادرة تُخصص لتوسيع المستعمرات اليهودية القائمة، أو لبناء مستعمرات جديدة، أو لغرس أشجار الغابات. وفي هذا السياق صدر "قانون الأحراج والغابات" في سنة 1956. والمعروف أن الغابات الجديدة غُرست أشجارها كلها تقريباً فوق خرائب القرى الفلسطينية المدمرة أو المهجورة.

سيطر "القيّم على أموال الغائبين" (كلمة أموال بحسب الاقتصاد والقانون تنصرف إلى كل ما يدخل تحت باب الأملاك، منقولة أَكانت أم غير منقولة أم معنوية) على أراضي الوقف الإسلامي أيضاً، وصودرت أموال اللاجئين المودعة في المصارف، ثم وُضعت اليد على الأسهم التي كان يملكها "الغائبون"، وعلى السندات والحسابات المصرفية، ولم يسلم بالطبع أهالي القدس الغربية. وحتى بعد أن "وحّد" الاحتلال شطري المدينة في سنة 1967، لم يتمكن المقدسيون من استعادة أملاكهم، وكذلك الأمر مع سكان المثلث العربي الصغير.

وعلى الرغم من أن اتفاقية الهدنة مع الأردن في نيسان/ ابريل 1949 نصت على التزام اسرائيل المحافظة على الحقوق الكاملة للسكان في الإقامة والتملك، إلا أن القيّم على أملاك هؤلاء السكان صادر نصف مساحة الأراضي التي يمتلكونها.


مفارقات الزمان الصهيوني
الفلسطيني الذي بقي في أرضه بعد سنة 1948، والذي اضطر إلى حمل الجنسية الإسرائيلية، هو مواطن إسرائيلي بحسب القانون، وله حق الترشح للانتخابات النيابية، والتقدم إلى وظائف الدولة. لكن هذا "المواطن" لو تقدم للمطالبة بأرضه المصادرة والموضوعة في تصرف "القيم على أموال الغائبين" لانقلبت الحال فوراً، وصار هذا المواطن "غائباً"، فتطبق في حقه قوانين أملاك الغائبين. والفلسطيني الذي ألجأته حرب 1947- 1948 إلى الانتقال من مكان إلى مكان في داخل فلسطين، صارت أملاكه في عداد أملاك الغائبين.

والأنكى من ذلك أنه بات يدفع إيجار منزله الجديد، ولا يحصل على أي مبلغ جراء تأجير مسكنه القديم لمهاجرين يهود جدد.

وقد بلغ عدد هؤلاء "اللاجئين في وطنهم" اليوم ما يناهز 250 ألفاً؛ فهم "غائبون كأصحاب حقوق، وحاضرون كمواطنين في الوقت نفسه". ومن وقائع السخرية السوداء أن أحد الفلاحين الفلسطينيين احتج أمام دائرة العقارات في إسرائيل قائلاً: كيف تنكرون ملكيتي؟ هذه الأرض لي، وقد ورثتها عن أبي الذي ورثها عن جدي، ولدي كوشان طابو (سند ملكية)؟ فأجابه مدير دائرة العقارات الإسرائيلية: نحن لدينا كوشان طابو أهم؛ لدينا كوشان من الله الذي منحنا هذه الأرض من دان إلى إيلات (فتخيلوا!).

ولو رغب أحد المواطنين الفلسطينيين المهجرين من الجليل إلى الناصرة على سبيل المثال أن يزور قريته المدمرة، وأن يتجول في المكان ليتذكر طفولته وأهله وتاريخ عائلته، ولو امتدت يده لتقطف ثمرة من شجرة كان زرعها بنفسه، أو زرعها والده قبل سنة 1948، سيتم، حينذاك، اعتقاله وتسليمه إلى الشرطة وإحالته إلى المحكمة بتهمة سرقة أموال الغير.

حتى أوائل سنة 1954 كان ثلث السكان اليهود في إسرائيل يعيشون في منازل اللاجئين. وعملية الإسكان هذه أدت إلى تحوُّل في المشهد المكاني والثقافي للفلسطينيين، فحلّت مجمعات يهودية حديثة في محل القرى الفلسطينية القديمة، واستحوذت حتى على الأسماء التاريخية، فصارت قرية نورس العربية تدعى "نوريت"، وعين حوض باتت "عين هود"، وسعسع صارت "ساسا"... إلخ.

وتكفلت شبكات الطرق والأنفاق والجسور بإتمام عملية المحو والإخفاء، فالأجنبي الزائر يمكنه أن يجول في فلسطين من شمالها إلى جنوبها من دون أن يرى عربياً واحداً، أو قرية عربية، فيعتقد أن هذه البلاد لم تكن آهلة قبل ورود اليهود إليها منذ ثمانية وستين عاماً. ويعيش الإسرائيليون اليوم في منازل الفلسطينيين، ويشربون من مياه الآبار التي حفرها أجدادهم، وينامون في أسرتهم التي تركوها إبان النكبة.

لكن ذلك كله لا يمنح المحتل الأمان. فهو يعيش خائفاً من عودة الفلسطيني إلى دياره الأصلية، وهو، في الوقت نفسه، مازال ينكر أن الفلسطيني كان موجوداً هنا منذ أزمان بعيدة. وكل شجرة أو حجارة أو بقايا منزل تروي قصة المكان، وكيف دار الزمان دورته وحوّل اتجاه الأشياء إلى زمان مختلف. فالقرى دُمِّر معظمها، والأراضي الزراعية أهملت بعد الطرد، ونفقت الحيوانات الزراعية والماشية، ونُهبت معدات العمل وآلات الورش والمخازن والمؤسسات التجارية.

وبسبب غياب أصحاب الأملاك بالقوة القاهرة لم تُروَ الأرض، فماتت الأشجار في البساتين، حتى إذا عمدت الدولة الإسرائيلية إلى الحديث عن التعويض بموجب القرار 194، كانت قيمة الأرض تُقدر بأثمان بخسة جداً. فقد احتج أحد الفلاحين الفلسطينيين على قيمة التعويض قائلاً: هل ثمن الدونم الواحد من أرضي 200 ليرة فقط؟ إنه ثمن بخس. فأجابه أحد الصهيونيين: هذه ليست أرضك... إنها أرضنا، ونحن ندفع لك أجرة نطارة (حراسة). وأنتم الفلسطينيون لستم إلا نواطير، نطرتم أرضنا ألفي سنة، وها نحن ندفع لكم أجرتكم.

قصارى القول إن قانون أموال الغائبين كان المدماك الأساس الذي بُنيت عليه سياسة المحو والطمس والإنكار. أما القيم على أملاك الغائبين فقد كان له شأن هائل ربما يتخطى شأن المؤسسة العسكرية، في إثراء الدولة الإسرائيلية وترسيخ وجودها. ولم توجد دولة في العالم امتلكت، خلال ثلاث سنوات من تأسيسها، هذا القدر من الأرض والمؤسسات والمنشآت الحيوية، إلا إسرائيل.


(كاتب وباحث فلسطيني/ بيروت)