فلسطين بوصفها قضية حرية وكرامة وعدالة

02 مايو 2016
(تصوير: ديفيد ويلز)
+ الخط -

منذ إطلاقها، قبل عدة عقود، انطوت مقولة إن "قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية"، على نوع من المخاتلة والادعاء، إذ إنها ظلّت بمثابة حبر على ورق، لا سيما بالنسبة للأنظمة الاستبدادية، التي تغطّت بهذه القضية، لإضفاء شرعية على ذاتها، وعلى سعيها لتكريس تسلّطها، على الدولة والمجتمع والموارد، ومصادرتها للحريات وحقوق المواطنين، وتغييبها الديمقراطية.

وعلى الصعيد الخارجي فقد بدت قضية فلسطين، بالنسبة لهذه الأنظمة، كمجرّد وسيلة للابتزاز في العلاقات البينية، والدولية، ولتعزيز مكانتها الإقليمية، فهي ورقة للتوظيف والاستخدام ، لا سيما أن هذه الأنظمة اشتغلت على "مرمطة" الفلسطينيين وامتهانهم، كما على تطويع الحركة الوطنية الفلسطينية لسياساتها.

أما من جهة المجتمعات، فثمة صعوبة في الحديث عن فلسطين بوصفها قضيتها المركزية، من الناحية العملية، لأن المجتمعات التي تفتقد لحريتها وكرامتها ليس بإمكانها أن تعبّر عن ذاتها، على نحو سليم، وفعّال، وليس بإمكانها ما تقدمه، كما أثبتت التجربة، لنصرة كفاح الفلسطينيين، مع احترامنا للعواطف التي تكّنها هذه الجماهير لفلسطين وشعبها وقضيته.

القصد من كل ذلك التوضيح أن قضية فلسطين لم تتراجع في الأجندة العربية بسبب ثورات الربيع العربي، على ما يحلو لبعضهم الترويج، في محاولاتهم التورية على السبب الحقيقي لهذا التراجع، لأن هذه القضية لم تكن حقاً، ولا في أي يوم على رأس جدول الأعمال، ويكفي التذكير، أن لا حرب قامت من أجل فلسطين، باستثناء حرب (1948) هذا إذا اعتبرناها حرباً، بمعنى الكلمة، وإذا اعتبرنا الجيوش العربية السبعة جيوشاً حقاً، وليس مجرد مجموعة كتائب، ثمة ملاحظات كثيرة على أدائها وعلى الغرض السياسي منها، في حينه.

وحتى مع أخذنا الحروب الأخرى فإن حرب تشرين/ أكتوبر (1973) كانت آخر الحروب العربية ـ الإسرائيلية (النظامية)، أي أن الأنظمة لم تحرك ساكناً على الحدود الإسرائيلية، منذ أكثر من أربعة عقود، ولا إزاء الحروب التي شنّتها إسرائيل على لبنان والفلسطينيين، ناهيك عن الانتفاضتين الأولى والثانية، والحروب الثلاث على غزة، فضلاً عن أنها لم تفعل شيئاً حتى من أجل التسوية أو المفاوضة.

على ذلك فإن السبب الأساس لما بات يعرف بانحسار مكانة القضية الفلسطينية في الأجندة الدولية والإقليمية والعربية، وبالنسبة لاهتمامات الجماهير العربية، حتى النظرية أو العاطفية، إنما تتحمل مسؤوليته الحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها، مع تحولها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، تحت الاحتلال، ومع تحولها من مشروع يتضمن تقويض الصهيونية، وتحرير فلسطين، إلى مشروع يتأسس على إقامة كيان سياسي لجزء من شعب فلسطين، على جزء من أرض فلسطين، مع جزء من السيادة.

ومعلوم أن هذا التحول لم يتأسّس على تغيّر ما في موازين قوى استطاعت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية أن تفرض على إسرائيل التراجع، ولو على مستوى دحر الاحتلال من الضفة وغزة، وإنما هو حصل بنتيجة تغيرات دولية وإقليمية مكّنت إسرائيل من استيعاب الحركة الوطنية الفلسطينية، وتجويفها، وحرفها عن مسارها.

وبشكل أكثر تحديداً فإن انحسار مكانة القضية الفلسطينية، وتزعزع صدقية حركة التحرر الوطني الفلسطينية إنما حصل بدفع من عدة مسارات: الأول، يتمثل بالتماهي مع الأنظمة العربية، وضمنه الأنظمة الاستبدادية، في خطاباتها وأشكال عملها وعلاقتها بشعبها وبالجماهير العربية.

فمع الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني (1974)، من قبل النظام العربي، أضحت الحركة الوطنية الفلسطينية بمثابة نظام من الأنظمة العربية، في وقت مبكر، وقبل إنجاز التحرير وقبل إنجاز دحر الاحتلال من الضفة وغزة المحتلتين (1967)، بحيث إنها باتت بمثابة سلطة إزاء شعبها.

ففي هذا الوضع، ومع تدفّق الموارد عليها، أضحت الكيانات السياسية الفلسطينية (المنظمة والفصائل والمنظمات الشعبية) أقرب إلى أجهزة بيروقراطية، وتفاقم هذا الانزياح مع تحول قوات الفدائيين إلى نوع من جيش نظامي، ومع تغلب ظاهرة العسكرة على العمل الوطني، وضمنه عسكرة المجتمع، باسم المليشيا، على حساب العمل السياسي والتنظيمي.

لذا ليس صدفة أن هذا كله حدث بالتزامن مع تحول المنظمة نحو البرنامج المرحلي، بالنكوص من برنامج التحرير إلى برنامج الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، من دون أي أساس أو مقدمات لهذا التحول.

أما المسار الثاني، فيتمثل بالتحول إلى سلطة في الضفة والقطاع، لجزء من شعب، على جزء من أرض، مع جزء من السيادة، بعد قيام الكيان الفلسطيني الناشئ عن اتفاق أوسلو (1993).

وإذا كان التحول الأول، الذي تحدثنا عنه، تصاحب مع بقاء نوع من الازدواجية بين حركة التحرر الفلسطينية وبين كونها سلطة، ثم بين سعيها للتسوية واستمرار المقاومة، فإن التحول الثاني، الناجم عن اتفاق أوسلو، وضع حداً لهذه الازدواجية، وقد تم حسم ذلك نهائياً، بعد رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (أواخر 2004)، الذي ظل العلامة الأبرز لهذه الإشكالية، أو لهذه الازدواجية. والقصد أنه مع مجيء أبو مازن إلى رئاسة السلطة، تم الحسم باتجاه خيار واحد ووحيد، وهو خيار السلطة، والمفاوضة.

وإذا كانت قضية فلسطين، وكفاح شعبها، ظلت في المرحلة السابقة نوعاً من المعاني والمشاعر المزدوجة فإنها في هذه المرحلة فقدت معناها، بحكم ترهل الحركة الوطنية الفلسطينية بكل مكوناتها (المنظمة والسلطة والفصائل)، وانحسار دورها في مواجهة عدوها، وبحكم ضياع مشروعها.

ومثلاً، ما الذي يجعل الفلسطينيين خصوصاً، والعرب إجمالاً، يقفون مع مشروع سياسي يتأسس على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود ومن دون أي مقابل مناسب؟ أو ما الذي يجعلهم يقفون مع مشروع سياسي لا ينطلق من عنصري الحقيقة والعدالة، وإنما من منطق الغلبة وموازين القوى والأمر الواقع؟

ثم لماذا ينبغي دعم كيان فلسطيني سيقوم على حساب إزاحة السردية التاريخية للفلسطينيين وضياع حق اللاجئين؟ فوق ذلك ما الذي يمكن أن يضيفه هذا الكيان للشعب الفلسطيني وهو تحت هيمنة إسرائيل، لا سيما أن هذه لم يثبت أنها مستعدة حتى لتنفيذ استحقاقاتها المنصوص عليها حتى في اتفاق أوسلو، على ما نشهد منذ أكثر من عقدين؟

ثمة المسار الثالث، وهو مهم جداً، وينبغي لفت الانتباه إليه باستمرار، وهو المتعلق بالفجوة في الإدراكات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية، بين فكرتي التحرير والحرية. إذ إن مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية تكمن، أيضاً، في أنها لم تستوعب، أو لم تهضم، في فكرها السياسي العلاقة الوطيدة بين الفكرتين، فإذا كانت الجماهير العربية سكتت، أو تفهَّمت، علاقة الحركة الوطنية الفلسطينية بالأنظمة الاستبدادية، باعتبارها علاقة اضطرارية، فإنها لا يمكن أن تتفهَّم وقوف معظم فصائل هذه الحركة مع الأنظمة التي تقتل شعبها بالجيش الذي قيل إنه يعدُّ من أجل مواجهة إسرائيل، أو بالصواريخ التي يفترض أنها لرد اعتداءات إسرائيل.

والفكرة أن هذه السقطة أثبتت خواء حركة التحرر الفلسطينية، وضحالة فكرها السياسي، وتدني مستواها القيمي، واعتمادها على الشعارات والعواطف، وتسهيلها للأنظمة ركوب قضية فلسطين واستغلالها. والحقيقة التي ينبغي إدراكها والعمل على أساسها أن فلسطين ليست مجرد قطعة أرض، وإنما هي، أيضاً، معنى للحرية والكرامة والحقيقة والعدالة، وهذا ما ينبغي أن يكون في مركز وعي الحركة الوطنية الفلسطينية ومركز فهمها لذاتها ولدورها.


(كاتب فلسطيني/ تركيا)