حلم قطعة أرض

27 مارس 2016
نبيل عناني / فلسطين
+ الخط -

لم أعرف ما المقصود بيوم الأرض حين كنا نخرج ونحن أطفال في المرحلة الابتدائية في مظاهرات غاضبة من المدرسة نحو مركز الجيش الإسرائيلي وسط المخيم، نهتف لفلسطين وللشهداء.

الغضب الطافح على وجوه الشبان الذين كانوا يكبرونا سناً، وهم محمولون على الأكتاف، قبضات يدهم الملوحة في الهواء، اندفاعنا الصاخب نحو الجنود، الغاز المسيل للدموع، هرولتنا في الشوارع، ومنع التجول الذي قد يفرض بعد ذلك على المخيم.

كان يوماً من تلك الأيام القليلة التي نتذكرها قبل أسبوع أو أكثر ربما. الأجندة الفلسطينية مليئة بالأيام والذكريات، لكنها في ذلك الوقت من نهايات السبعينات وبداية الثمانينات حين كنت أحمل حقيبتي المدرسية مستطيلة الشكل وأخرج مثل آلاف التلاميذ في المخيم، نضرب عليها بأكف أيادينا الغاضبة، كانت قليلة بما يكفي لأن يحفظها طفل لم يتجاوز العاشرة مثلي.

حين تكبر في المخيم، بين القصص والحكايات الطازجة عن أحلى لحظات العمر قبل النكبة، حيث ذاكرة رجال نساء المخيم تتفتح مثل قربة ريح مثقوبة، وهم يجلسون على عتبات البيوت في الأماسي العليلة، أو حول كوانين النار في ليالي الشتاء الماطرة، تدرك كيف يرتبط الإنسان بالأرض وبالمكان، وكيف يكون المكان الإكسير الأقوى لكسر رتابة الزمن، لأنه الأكثر نفاذاً من بين كل الروائح.

كانت جدتي عائشة تسحب نفساً طويلاً وهي تستذكر صباها في يافا، كنت أظن أنها تشم رائحة الشوارع التي تتحدث عنها، أو أن ثمة رائحة ما مازالت عالقة من بسطة في السوق هناك.

كانت أحد أحلام أبي ونحن صغار أن يشتري قطعة أرض. رغم أن ثقافته لم يكن لها علاقة بالفلاحة والزراعة، فإن فكرة الأرض التي يمتلكها تشكل استعاضة عن الأرض الضائعة.

الفلسطيني أكثر شخص قد يحلم بالأرض. في المخيم الناس تزرع كل شيء حول البيت، وفوق السطح. بل إن أحد أهم مظاهر المخيم هو أصص النعنع والريحان التي تصطف فوق جدران البيوت. أمي كانت مغرمة بزراعة الورود في أصص لم تكن إلا تنكات الزيت الفارغة وبعضها مصنوع من الفخار، تضعها فوق جدار البيت الخارجي. ويا للكارثة إذا أتت الرياح على بيارتها تلك، كيف سيرتبك كل البيت وهو ينقذ ما يمكن إنقاذه.

كل واحد منا، حين كان صغيراً كان يتخيل "الحاكورة" بجوار بيتهم غابة كبيرة لا تنتهي حدودها. الحاكورة التي لا تزيد مساحتها ربما عن مترين وربما ثلاثة، كانت تمتلئ بكل ما يمكن زراعته في الأرض. كنت أتخيلها في صغري بيارة لا متناهية. وحين أكبر بعد ذلك وأتخيل رحابة العالم أكتشف كم أن الأمر لا علاقة له بحقيقة المساحة بل بالمتخيل عنها. حاكورات المخيم كانت استعادة لكل بيارات فلسطين كما كانت حارته استعادة لكل قرى فلسطين.

يمكن بكثير من اليقين تأمل كيف ينظر الفلسطيني إلى الأرض. ليست فلسطين متخيلة ولا هي مشتهاة، لكنها تشكل جوهر ارتباط الفلسطيني بالكون.

الأرض أكثر من مجرد تراب بالنسبة للفلسطيني، إنها كنه تعلقه بالحياة. لذا لم تكن مسيرات يوم الأرض الغاضبة حين كان شارع المدارس في المخيم – طبعاً على أن اعترف بفرحة الطفل الذي كنته وأنا أتهرب من واجباتي المدرسية في ذلك اليوم- إلا تعبيراً عن هذا الحب واحتفالاً بذلك الرابط السري.

إنها الفتنة التي كنت أراها في مجلس الحارة أمام البقالة في المخيم حين يروي مسنّو الحارة ذكرياتهم عن القرى والمدن التي هُجروا منها.

البريق في عيونهم، حركة ألسنتهم وهي ترطب شفاههم الدبقة من الألم كلها تحكي لماذا يمكن لطفل مثلي لم يولد في يافا، أو أي من القرى التي ينحدر منها سكان المخيم، أن يخرج غاضباً يهتف للأرض التي لم يرها، لكنه يحسها، يشمها، يلمسها، يعرفها، يدركها، وأهم شيء أن مجرد تخصيص يوم افتراضي للاحتفال بها "يوم الأرض" يحمله على بساط الغضب ويفجر فيها لواعج وذكريات لم يعشها.

(كاتب فلسطيني / غزة)