التقشف للشعب والامتيازات لرجال الأعمال

26 اغسطس 2015
تحاول الحكومة المصرية شق صفوف الرافضين لقانون الخدمة المدنية
+ الخط -
تزامنت نغمة محاربة الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي مع أحاديث الإصلاح الاقتصادي في مصر، وبيعت مصانع الدولة في سنوات مواجهتها مع الجماعات الإسلامية. الآن يعود خطاب التسعينيات وتحكم السلطة بذات المنطق وبعقليتها الأمنية الباطشة. فكلما أرادت تطبيق سياسات التمييز الاقتصادي تستدعي ملفات المخاطر التي تحيط بالدولة، تفرض إجراءات التقشف والإفقار على الشعب، تحت سلاح التهديد بمواجهة الإرهاب أو رفع شعارات الاصطفاف الوطني. ومن لا يصطف وراء سلطة التقشف الاقتصادي فهو في جبهة الإرهاب ومتآمر، أو في أحسن الأحوال يقف في خندق أعداء الوطن.

جاء قانون الخدمة المدنية الذي يعرف في أوساط العمال بقانون السخرة، ليعيد التذكير بما حدث في التسعينيات، حيث يعبر القانون عن نهج سلطة الإفقار تحت مسميات الإصلاح الاقتصادي وتطهير جهاز الدولة. وطبقاً لسياسات التكيّف الهيكلي فإن رؤية السلطة الاقتصادية منحازة لرجال الأعمال، وتمنحهم امتيازات، بينما تصدر تشريعات تهدر حقوق ملايين العمال. وذلك ما يعتبر ترجمة لفلسفة الحكم الرشيد القائم على إدارة القطاع الخاص للإنتاج، تحت مسمى المشاركة في الحكم.

تجلى الأثر الأكبر لقانون الخدمة المدنية في هزيمة أوهام الملايين من العمال الذين تأثروا بماكينة الدعاية، ورأوا في السيسي "مستقبلَ وطن" وأملهم في التغيير. روجت ماكينة الإعلام المرتبط بمؤسسات واستثمارات اقتصادية ضخمة للنظام، أوهاماً اقتصادية أخفت الخلل الواضح بين معدلات الأسعار والأجور. وها هي كل تلال الوهم وحلم الرفاه والتنمية الاقتصادية الزائفة تسقط أمام أعين الناس.

اقرأ أيضا: قانون التقشّف والاستغلال للمصريين

كشف القانون أيضاً التوقعات الخاطئة لمجموعة الإصلاح التشريعي والمجموعة الاقتصادية، حيث ظنت أن كامل خطتها ستمر بسلام، لكن تظاهرات الاحتجاج ضد قانون السخرة أزعجت السلطة وفوجئت بها، حتى أنها دفعت رأس النظام "السيسي" ليعلن غضبه من رافضين القانون. وفي هذا الخطاب أعاد النظام إنتاج ذاته حول أزمة الموازنة فردّها لتضخم بند الأجور إلى 219 مليار جنيه بعد ما كان قبل الثورة 70 ملياراً. وبعيداً عن مدى دقة الأرقام ومن يتحصل على هذه المليارات، فإن القصد من الخطاب هو تبرير القانون. كما ركز الخطاب على فكرة الإصلاح الإداري المقبولة شعبياً بحكم تشعب الفساد في جهاز الدولة، وفي مغالطة واضحة تم ربط الفساد الإداري، المرتبط بقطاعات عليا من البيروقراطية، بتضخم الجهاز الإداري وارتفاعه من 6 إلى 7 ملايين شخص. هذا الخطاب يؤكد تخوف العمال من المتوقع وفقا لهذا القانون ووفقا لما تعلنه الدولة، أي أن يتم التخلص من نسبة من موظفي الدولة. وما جرى خلال الشهر الحالي من تخفيض للحوافز والعلاوات للعاملين هو نتاج تطبيق القانون. كما سيؤدي إقراره مستقبلاً إلى تخفيض تعويض نهاية خدمة العمل.

كشفت الحكومة المصرية، بمحاولتها تفريق وإرباك صفوف العمال، عن أنها لا تستطيع مواجهة الاحتجاجات وحدها، فخرج خطاب السيسي كمحاولة استيعاب وطمأنة الناس، إلى جانب وعود الحكومة بالتفاوض على المواد الخلافية.

وهذه المناورة المزدوجة تزيح أوهام من تصور أن مؤسسة الرئاسة لم يمر عليها القانون وأن توجهاتها تختلف عن توجهات الحكومة، التي تطبق ثنائية التقشف للشعب والامتيازات لرجال الأعمال. خطاب الدولة يكشف عن الحقائق ويوضحها، فالخدمة المدنية وغيره من قوانين الظلم الاجتماعي، التي شرعتها السلطة، هي تعبير عن إرادة الطبقة التي تحكم مصر الآن.

يمكننا القول إن هذا القانون ساعد في إحداث شرخ في الكتلة الاجتماعية المؤيدة لسياسات النظام. والحراك في الأغلب سيستمر حتى تتراجع الدولة عن القانون وتعدله، لأن محاولات الاستيعاب من قبل الحكومة المصرية ورئيس وزرائها لم تثن المحتجين عن مطالبهم. فالوعود بإجراء حوار مجتمعي حول اللائحة التنفيذية للقانون، لا يمكن تصديقها، فقد أصدرت الحكومة القانون دون أي حوار مجتمعي حقيقي، وفوجئ العمال بإقرار القانون، وازداد قلقهم بعد خطاب النظام الذي يطالبهم بالصبر والتضحية، تحت تهديد سيف الاستغلال والاستبداد بدعوى "محاربة الإرهاب".
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية - جامعة القاهرة)
المساهمون