رامبو العالق في جيبوتي

18 اغسطس 2015
لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط
+ الخط -
حين تمضي في الأمكنة التي عاش فيها آرثر رامبو أو مرّ فيها، يبدو لك أنك قد صرت تعرف وجهاً آخر من حياة الشاعر المغامر الذي ترك الشعر وذهب يبحث عن حياة مختلفة في عدن والسواحل الأفريقية.
يتساءل هنري ميلر في كتابه (رامبو وزمن القتلة): "كيف رضي إنسان عبقري، مفعم بالطاقات العظيمة، أن يسجن نفسه في غار تعس كهذا؟".
ما بدا لي وقد عشت ثلاثة أشهر عالقاً في جيبوتي بسبب الحرب الأخيرة في اليمن، أن رامبو الذي عاش ضعفي الفترة التي عشتها في تاجورة التي كانت تابعة لأوبوك، المستعمرة الفرنسية، كان هو الآخر قد علق في المكان نفسه لما يقرب من عشرة أشهر، وهو في طريقه من عدن إلى شوا بالحبشة لإكمال صفقة بيع أسلحة. لكن "علقه" لم يكن مؤقتاً، كحال اللاجئين الذين قدموا أخيراً من عدن، وإنّما "علق" أبدي، لا فكاك منه، كحياته، أو لنقل كاسمه الذي جمع الشعر والحياة.
حين تسأل عنه في جيبوتي التي أُطلق اسمه فيها على ساحة كبيرة ومركز ثقافي فرنسي، يكاد الجميع لا يعرفه. وإذا هناك من جواب، فإنّه سيحمل إشكالية، كإشكالية حياة رامبو نفسها. سألتُ عبده برّي، المواطن الجيبوتي: "أتعرف من هو رامبو؟"، قال: "نعم، شاعر فرنسي، جاء إلى تاجورة ليتاجر بالسلاح والعبيد والمخدرات".
حدّثته عن اللغط الذي دار حول تجارة رامبو في السلاح والرق، أمّا تجارته بالمخدرات فلم أنتبه إلى وجود إشارات تؤكدها، وإن كان قد ذهب البعض إلى أنّه تعاطاها.
عند العودة إلى رسائل رامبو (ترجمها للعربية شربل داغر) التي اقتطف منها بيير بتفيز في "رامبو الشاعر والإنسان"، نعرف أن رامبو ترك العمل مع ألفريد باردي في عدن في أكتوبر/ تشرين الأوّل 1885 ليرحل بعد حوالي شهر إلى تاجورة بعدما أصبح شريكاً لبيير لابتوت، على أمل تمرير صفقة أسلحة من هناك إلى منليك، ملك شوا، المجاورة لهرر.

اقرأ أيضاً: غونتر غراس إذ يربك دولة

يواجه رامبو في تاجورة موجات الحرّ الشديدة، حيث الحرارة تصل إلى أكثر من خمسين، ومعها تنتشر أنواع الحمى المختلفة. وهو حال يصفه رامبو في رسالته لأهله: "الذين يردّدون في كل لحظة أن الحياة قاسية، ما عليهم سوى القدوم إلى هنا لتمضية بعض الوقت، من أجل أن يتعلّموا الفلسفة"؛ وفي الرسالة نفسها يكتب خلاصة حكمة: "يحسب الإنسان تمضية ثلاثة أرباع حياته في العذاب لكي يعرف الراحة في الربع الأخير، إلاّ أنّه يموت بائساً، في غالب الأحيان، من دون أن يعرف حقيقة حساباته".
كانت مدينة جيبوتي المعروفة حالياً بهذا الاسم، قريبة من النفوذ الفرنسي، لذا قدّم رامبو اقتراحات منشورة لتعميرها بمشاريع السكك الحديدية وتأمين الطرق إليها؛ "على أن تبقى منطقة حرّة لكي نتوصل فعلاً إلى منافسة زيلع"، التي كانت تحت السيطرة الإنجليزية. ويصف تاجورة "قرية صغيرة دنكالية ذات مساجد قليلة وبضع نخلات. فيها حصن بناه المصريون في ما مضى، وينام فيه راهناً ستة جنود فرنسيين، بأمرة رقيب، هو آمر الموقع العسكري. جرى الإبقاء على سلطان البلاد الصغير، وعلى إدارته المحلية. إنها موضوعة تحت نظام الحماية".
يشير رامبو إلى أن التجارة المحلية في تاجورة هي تجارة العبيد، وإن قوافل الأوروبيين إلى شوا تواجه مصاعب كبيرة، لأن سكّان الشواطئ أصبحوا "أعداء الأوروبيين، منذ أن دفع الأميرال الإنكليزي هيويت الأمبراطور جان دي تيغري لتوقيع معاهدة إلغاء تجارة الرقيق، التجارة المحليّة الوحيدة التي تعرف قدراً من الازدهار. غير أنّه لم تعد تجري مضايقة تجار الرقيق، في ظلّ الحماية الفرنسية، وهذا أفضل". ويوضح لأهله عبارته الأخيرة: "لا تذهبوا حدّ الظنّ أنني صرت تاجراً للعبيد. لن نستورد غير البنادق (بنادق قديمة ذات مكبس، وغير معتمدة عسكرياً من 40 سنة)".

اقرأ أيضاً: ما فعله غونتر غراس

واجه، العالق الأبدي في الحياة والموت، الكثير من المصاعب في إنجاح صفقة الأسلحة، فحين وصلت الكمية المطلوبة: ألفان وأربعون بندقية وستون ألف خرطوشة من نوع ريمنغتون، إضافة إلى سلع أخرى مختلفة، عرف رامبو في 12/4/ 1886، أن حاكم أوبوك لاغاردي وسلطان تاجورة يعارضان مغادرته إلى شوا، فقام بنقل كلّ الأشياء بعيداً من الأنظار وخزنها في كوخ يسهر على حراسته بنفسه. وفي الوقت نفسه احتج بالتعاون مع لاباتوت عند وزير الخارجية الفرنسي في باريس على منعه من تمرير الصفقة، إذ لم يسمح بسبب الاتفاقات البريطانية الفرنسية بتوسع تجارة الأسلحة، حيث خافت بريطانيا أن يكون الأمر سبباً في توسيع مملكة منليك الذي لم يكن صديقاً لها. وكان يشاع، حسب بتفيز، أن تجارة الرقيق ازدهرت تحت ستار من تهريب السلاح.
وزادت الصعوبات حين وقع شريكه بيير لاباتوت في المرض واضطر للعودة إلى فرنسا حيث لفظ أنفاسه الأخيرة، ليتفق رامبو بعدها مع التاجر سولييه للالتحاق بقافلته، إلاّ أن هذا الآخر مات بدوره، ما اضطر رامبو للرحيل وحده في مغامرة مليئة بالمخاطر؛ فغالباً ما كان مقياس الحرارة يؤشر إلى أكثر من اثنين وسبعين درجة مئوية، وفي هذه الأجواء سار رامبو أكثر الرحلة مشياً على الأقدام وإلى جانبه يسير بغله. وكانت قافلته تتألف من خمسين جملاً تقريباً وأربعة وثلاثين حبشياً للحراسة.
وبعد رحلة طويلة، يصل إلى شوا حيث يعرف أن منليك كان يخوض حرباً على هرر، استولى خلالها على الكثير من الأسلحة، ولم تعد تهمه كثيراً صفقة رامبو. لذا أجبره الملك على بيع الأسلحة بأسعار منخفضة، فوجد أن أعماله التجارية صارت تجلب له متاعب كثيرة وفوائد قليلة.
وإذ مضى بصفقات أخرى شبه خاسرة وتفاقم مرضه بالروماتيزم والدوالي، وقيل الزهري، يكتب لأسرته عن رغبته في العودة لفرنسا للعلاج حيث تقرر قطع ساقه فوراً. يكتب في رسالته الأخيرة من عدن: "لا تهلعوا لهذا. الأيّام السعيدة قادمة"؛ لكنّه يضيف واصفاً حاله "إنّها مكافأة حزينة لهذا القدر الهائل من العمل والحرمان والهموم. يا للأسف! كم هي بائسة حياتنا!".
المساهمون