من يحتاج إلى الشعر؟

30 يونيو 2015
لوحة للفنان الأردني محمد الجالوس من مجموعة ذاكرة.
+ الخط -
من يحتاج إلى هذا الطفل المشاغب المشاكس، المفتون ببراءته الأولى، المدّثر بغبشه، خوفَ يتخرّش زغبه الأنقى؟
من يحتاج إلى هذا الطفل الذي يرفض أن يكبر، أو يعقل، أو يحسب حساباً لأحد ويَشمَس، أن يُروّض ويُساس؟ ولا يرضى بأقلّ من الكائن بما هو اختزال نبيل للكون ملعباً لطيشه الوسيم؟ وبأقلّ من الخلود عطشاً عقاباً له على طيشه؟
أقول : من يحتاج، ولا أعني : من يريد. فمن شأن المريد أن يسأل ويلحّ حتى يُعطى، ومن شأن المحتاج أن يبحث .. ليكون.
قلّة ستقرأ كلامي هذا، وأقلّ منها من سيحمل السؤال المشنوق أعلاه على محمل الالتياع، ذي الركائز الغائرة جرحاً أخضر في الوجدان، وأسىً ناتئاً على أديم الروح.
فقد استتب في قناعة عامة الناس، وعامّة المثقفين، على حدّ سواء، أن عصر الشعر قد ولّى، وأن إيقاع الحياة الحاضرة لم يعد يتسع لإيقاع القصائد، وأن أفضل ما يمكن قوله قد قيل. ولا يلبثون أن يأخذوا بنبش ذاكراتهم الطافحة بأسماء وألوان وأثمان سلع الاستهلاك - حتى الأدبية منها!- لاستعادة بيت أو بيتين لهذا الشاعر أو ذاك، كانوا حفظوهما في أثناء مرحلة الدراسة، أو قرأوهما سهواً، في مجلة أو صحيفة، ليؤكّدوا قيمة المنجز سابقاً، واطلاعهم الواسع عليه، واكتفاءه بذاته، واكتفاءهم به!.
ثمّ هم لا يخجلون، حين يرونك تتابع مغامرتك الإبداعية، جارحاً خدود الليونة بشفرات الشفافية، أن يرفعوا أيديهم وعقائرهم احتجاجاً على ما تكتب، وعلى أسلوبك ورؤاك، واصمينك بالتعالي على أفهامهم وأذواقهم وحاجاتهم، والتخلي عن "وظيفتك" الاجتماعية، وانعزالك في أبراج العاج!
يا لها من قطيعة، تتعمّق بحسّ الفصال بين من يفترض أنه متلق من جهة، والشعر والشاعر من جهة أخرى. قد نجتهد فنقول إن جملة عوامل، لا مجال للخوض في تفاصيلها هنا، شكّلت الفرد لهاثاً محموماً في دوامة مجتمعات ترزح تحت ضغوط قيم استهلاكية مسطحة الهموم، وأحداث جسام تتّابع بعنفها ومجانية جنونها، كان من شأنها أن نفت من روح ذلك الفرد قيمه الفطرية الأصيلة، وضيّقت، حتى لاشت، الراقات الأخفى من نفسه، المنذورة أصلاً للتسامي، لتلقّي الجمال والفن.

اقرأ أيضاً: البوابة مفتوحة

لكن الأكيد أن ذلك المفترض أنه المتلقي، قد كفّ عن "الحاجة" إلى الشعر، وكفّ بالتالي عن متابعته ومساءلته، محتسباً بشذرات مفرغة من الجدوى وطاقة الإرعاش، مرمية في قاع روحه المكتظّ باليومي والحدثي.

بيد أن الشعر، هذا الطفل المقمّط بدهشته الأبدية، لم يكفّ ولم يهادن. ما يزال "على قلقه" يجوب الخوافي قبل البوادي، تلمّساً لأسئلة أعصى وأعمق، وتطاولاً إلى جمالات أشغب انفلاتاً في النقاء، ولم ينِ يسبر في ما لا ينقال - حسب تعبير الصوفية-ليحاول قوله، وفي ما لا يعرّف - حسب تعبير رامبو- ليحاول القبض على زئبقه. لا حدود لنزقه وريبه، لا فواصل لتدميره وخلقه، لا اتئاد ولا ركون، فيما، كما نعلم، ركن الآخرون.
وقعت القطيعة إذن، بعد تخلّف "المتلقي" عن مواكبة جموح "الإبداع"، فهل يحقّ للأوّل مطالبة الثاني بحقوقه عليه؟ إن من يتعامل مع الشعر كفائض ومتطفل وممكن الاستبدال، لا ينبغي أن ينتظر من الشعر إلا أن يهمله ويضنّ عليه بأسراره.
لا يتوسّل الشعر إرضاء أحد، لا يبوح بمكنوناته على الملأ، فمن ذا الذي ينتظر من غابة استوائية تمتلئ ببسوق أشجارها المتجذّرة في كبد الأرض، بغموض مخلوقاتها، بروائحها وألوانها وتشكيلاتها، أن تطرح نفسها بين يديه، وتسترضي لامبالاته؟
يكتب الشاعر قصيدته لأنه لا يستطيع إلا أن يكتبها. يكتب ليعرف، ولا يكتب ما يعرف، فما يمكن قوله بغير الشعر ليس من هموم الشعر. يكتب بأسلوبه هو ملامح روحه هو، التي لن تتطابق مع ملامح أي آخر. ولأن الأسلوب ليس مجرد تقنية، بل هو مادّة الرؤيا ذاتها، وفقاً لبروست، فإن ولوج عالم شاعر ما، لا يتأتى بمعارف وتوقّعات مسبّقة، فهو وطء على أرض بكر لم تألفها أقدامنا، واستنشاق هواء جديد على رئاتنا، وضربٌ في المجهول.
الحاجة إلى الشعر، بهذا الإدراك، حاجة يثيرها الإحساس الحارق بعدم الاكتمال، وتمنع الاسترخاء، والمحتاجون إلى الشعر هم اللا مكتفون، اللا متكيفون، ذوو السرائر المؤرقة، والمهيأون، إلى ذلك، لدخول المغامرة.
لا يكتب الشاعر من فراغ، ولا يكتب لفراغ. وعلى المحتاج إلى الشعر أن لا يأتي، بدوره، من فراغ. فالدخول المظفّر في المجهول لا بدّ أن يسبقه خروج جريء من المعلوم والمعتاد.
وبعد ... هل هناك من يحتاج إلى الشعر؟
(شاعر أردني)
المساهمون