وليد رعد... خدش السياسي ومشاكسته بالفنّ

19 أكتوبر 2015
عمل للفنان وليد رعد في الـ "موما"، العربي الجديد
+ الخط -
في نيويورك، في متحف الفن المعاصر"موما"، ثمة معرض "احتفائي" بالفنان اللبناني وليد رعد (1967). صحيح أنه سبق لرعد عرض أعماله في نيويورك، إلا أنها المرة الأولى التي يقدّم فيها المتحف المرموق معرضاً استعادياً له، متضمناً أكثر من مئتي قطعة تتنوع بين الصور الفوتوغرافية والفيديو ومنحوتات ومجسّمات، وتجهيزات وأعمال أرشيفية. ونظراً إلى شدّة "حداثة" طرق تعبير رعد الفنيّة، ارتأيتُ الاستفادة من "زيارة خاصّة" برفقة الفنّان، لسبر عوالمه الغامضة والقوية.

يركز المعرض على مشروعين رئيسيين؛ "مجموعة أطلس 1989- 2004" الشهير، وفيه يتناول العلاقة بين الأرشيف والتاريخ والذاكرة الجماعية والفردية، والعلاقة بين المتخيل والواقع للحرب الأهلية اللبنانية. أما المشروع الثاني فيحمل عنوان "Scratching on things I could disavow" "خدش أشياء يمكنني التنصل منها". وفيه يسبر رعد بجرأة العلاقة بين تاريخ الفن ورأس المال وعلاقتهما بالبنية التحتية والمادية في عواصم عربية وغربية.


زيارة خاصّة مع الفنان، إسرائيل وراء الباب

وصلت إلى المتحف قبل الموعد المحدد للزيارة الخاصّة. كان رعد يقف إلى جانب عمل تجهيزي ضخم تنتشر فوقه أسماء عواصم عديدة في الشرق الأوسط ودول غربية، وأسماء أشخاص ومؤسسات ترتبط بأسهم أخطبوطية، ويحمل العمل عنوان "Translator’s Introduction: Pension arts in Dubai 2012". ثُبت العمل على جدار خشبي أمام منصة خشبية مرتفعة أعدت خصيصاً للمعرض، وتقع فوق الأرضية العادية للقاعة، محاطة بجدران ثلاثة، علّقت عليها أعمال مختلفة. إلا أن الجدار الرابع غائب، لتظلّ القاعة فضاء مفتوحاً يطل على فضاءات مجاورة لا علاقة لها بأعمال رعد. كذا يمكن للمارين التلصص على الجمهور الذي يجلس أو يمشي في الزيارة مع رعد.

طلب رعد من الحضور الجالس على مقاعد بلاستيكية وزعت مسبقاً أمام العمل، التجول والنظر إلى العمل والاقتراب منه، قبل العودة للجلوس في أماكنهم للاستماع له عبر سماعات خاصّة. أما هو فبدأ يقص عليهم كحكواتي باهر قصّة هذا العمل التي بدت للوهلة الأولى كأنها رواية بوليسية محكمة ومعقدة، أو نظرية باحث يحاول إثبات صحة معادلته لجمهور يبدو له ما يقوله الفنان موغلاً في الخيال والغرابة.

وقف بعض الزوار من الشرفات ينظرون إلى رعد، وهو يقص علينا حكاية مشروعه وبحثه لسنوات حول العلاقة بين الفن ورأس المال والمشهد الفني والمتاحف وتداخل وتشابك حقول الاستثمارات وسوق الفن وتكنولوجيا المعلومات وعلاقتها الوثيقة بالسياسة وبواحدة من وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي. وهذا جزء من مشروعه الضخم والمتشعب "خدش أشياء يمكنني التنصل منها".

بدأ رعد بـ "رواية" قصة كانت بدايتها اتصال سيدة به تعرض عليه الاشتراك في صندوق تقاعد للفنانين. بدت له آنذاك فكرة ممتازة ونادرة، فقلّما يتوفر ذلك للفنانين. تعتمد فكرة الشركة على إنشاء صندوق لفنانين يعيشون في عواصم مختلفة في العالم؛ دبي وباريس ولندن ونيويورك وبرلين. يختار الصندوق 25 فنّاناً من كل مدينة. ويعتمد على تأمين تقاعد لهم عن طريق معادلة تقضي بأن يعطي كل فنان عملاً واحداًَ في السنة للصندوق الذي يشترك فيه فنانون من المدينة التي يعيش فيها فقط وعلى مدار عشرين عاماً. ويمكن للفنان إعارة أعماله لمعارض مختلفة، ويتكفل الصندوق بحفظ الأعمال وتخزينها وما إلى ذلك، ويتوزع الادخار على الفنانين الخمسة والعشرين، بعد استقطاع نسبة الصندوق وتكاليف صيانة الأعمال. راقت الفكرة لرعد، لكنه أراد أن يعرف المزيد عن الشركة ومصادر تمويلها قبل أن يقرر. اكتشف بعد البحث وطرح الأسئلة أن مؤسس الشركة إسرائيلي/أميركي، وأنها ممولة من شركة استثمارات يملكها الشخص نفسه. اكتشف رعد أن أغلبية المستثمرين في الشركة، كما مؤسسيها، كانوا في الوحدة الخاصة نفسها في الجيش الإسرائيلي. ازدادت شكوك رعد، لا بسبب موقفه من قضية فلسطين فحسب بل للتبعات القانونية، إذ إن لبنان وإسرائيل في حالة حرب. لكن فضوله ازداد وبدأ بطرح أسئلة عن العلاقات المتشعّبة. ارتفع حماس رعد بوضوح وهو يعيد طرح الأسئلة ذاتها على الحضور، ويشير إلى الأسماء والصور والأسهم والأرقام على اللوح. السؤال الأكبر الذي يشغل رعد هو التغيرات التي طرأت على الفن العربي في العقود الأخيرة. وما هي تبعات الاهتمام المتزايد بالفن العربي الحديث والاستثمار فيه وتخصيص بلايين الدولارات لتوفير بنية تحتية له عبر إنشاء المتاحف واستيراد الماركات العالمية؟ قد تكون الحكاية التي قصها رعد وتتبع خيوطها مثالاً وتذكيراً بأن الفن وإنتاجه وعرضه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الجغرافية - السياسية. يقف رعد هنا عند العلاقة بين رأس المال والفن ويحاكي، كما يقترح المتحف في المادة الخاصة بالصحافة، جدولاً آخر كان قد أنجزه مؤسس ورئيس متحف الموما نفسه، ألفريد بار، عام 1936 ويرصد به تطور الفن الحديث. لكن خرائط وجداول رعد ترصد سيطرة رأس المال والأرصدة ويذكّر بأن الأعمال الفنية مدخرات مادية.

وعند انتهاء الجزء الأوّل من العرض تساءل بعض الحضور عما إذا كان ما يحكيه رعد وقائع حقيقة أم ضرباً من ضروب الخيال، وكان الرد القاطع أن كل ما قاله حدث فعلاً. وهو الأمر الذي لا يحب الفنان عادة الإجابة عنه، إذ يرى أن الحد الفاصل بين الواقع والخيال في العمل الفني غير مهم، ويميز عادة بين عمله كفنان في هذا السياق أو عمله كأستاذ جامعي حيث يتطلب منه الأخير وضع خطوط أكثر وضوحاً بين البحثي والفني والحقائق الواقعية أو التاريخية.

اقرأ أيضًا: الفنانة الكولومبية دوريس سالسيدو

في الحرب الأهلية، الصورة الفوتوغرافية وثيقة استخباراتية

ركز الجزء الثاني من العرض على تأثير الحرب في الثقافة، وكانت الثيمة الأبرز هي كيف أن بعض الألوان تهرب بل تختفي بفعل الحرب ودمارها. هذا ما اقترحه رعد، الذي أصبح أكثر شعرية، وهو يطلب من الجمهور تأمّل عشرات اللوحات المتباينة الأحجام والمعلّقة على جدار آخر ويفكّر بتبعات ما يقوله. هنا يقف الجمهور أمام أشكال تجريدية وكتل ليبحث عن اللون الذي هرب. الجزء الثالث في هذه السلسة كان مهووساً بتاريخ الفن كذلك، ولكن في لبنان تحديداً. نقرأ سلسلة أسماء لفنانين قادمين من المستقبل يزودونه بمعلومات كما أصرّ رعد، مكتوبة على شكل سلسلة حول جدار أبيض.


تستغل هذه السلسلة، كما جاء في المقدّمة "مفهوم المتحف وسلطة المنظّم لخلق فضاء أدائي للفن". من الأعمال اللافتة التي تؤدي هذه الوظيفة سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي أنتجها رعد من وثائق تعود لمعارض ونشاطات فنية في العالم العربي من كتب وكاتلوغات وملصقات وبطاقات دعوة. لكنه أعاد تركيبها وقام بمحو الكثير من عناصرها وحروفها فبقيت الألوان فيها شبه خرساء عاجزة عن التعبير الكامل.

ويحيلنا تضبيب لا بل محو الحدود بين الواقعي والخيالي والتوثيقي إلى عمل رعد الشهير "مجموعة أطلس (1989-2004)" الذي قارب تاريخ لبنان الحديث عبر سلسلة من الصور الفوتوغرافية والفيديوهات والدفاتر والمحاضرات التي سردت حكايات خيالية مستقاة من الأرشيف ومن وقائع الحرب الأهلية اللبنانية. والمجموعة بدأت كمؤسسة خيالية لكن بعد أن حاول الآخرون أن يصبحوا جزءاً منها، غدت كما يقول رعد، بمرور الزمن مجموعة حقيقية. ومن أعمال هذا المشروع اللافتة، الذي أصبح جزءاً من المجموعة الدائمة لمتحف موما، "رقبتي أرفع من شعرة: محركات" وهي سلسلة من مائة صورة فوتوغرافيّة التقطها مصورون، هواة ومحترفون، للسيارات المفخخة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. عثر رعد عليها وجمعها من الأرشيف اللبناني ليضعها في سياق مختلف ضمن مشروع "مجموعة أطلس" الذي يشكّك بثقافة الصمت الرسمي حول الحرب ويحاول ترميم الذاكرة المهشّمة باقتراح أرشيف آخر وآليات مختلفة، لا للاستعادة فحسب بل للتفكير بمعنى الماضي ودوره في تشكيل الحاضر. ولا يملك المرء إلا قراءة هذا العمل الآن في سياق آخر على ضوء الحروب الأهلية المستعرة خارج لبنان، حيث أصبحت السيارات المفخخة فيها سلاحاً عادياً. فيبدو التاريخ وكأنه دائرة موت تضيق خناقها. ويذكر رعد أن أعمال يوجين آتغيه التوثيقية لباريس في بدايات القرن العشرين ألهمته أثناء سني دراسته وحاول أن يوثّق بيروت. ولكن "في عام 1987، كان من المستحيل أن أفعل هذا. فليس بإمكان المرء أن يمشي 300 أو 400 متر دون أن يوقفه أحد ما. ففي سياق الحرب الأهلية كانت الصورة الفوتوغرافية "وثيقة استخباراتية" وليست "وثيقة جمالية".
المساهمون