مدارس ألمانيا... تعليم بلا أسوار وطلبة لا يهربون

18 يناير 2017
وصلت فكرة المدارس بلا أسوار إلى الصين وكوريا(Getty)
+ الخط -
بينما كنت جالسة في الباص السياحي المار بوسط مدينة هاغن الواقعة غربي ألمانيا على مقربة من نهر الراين، مررنا بجوار مبنى عتيق تزينه تماثيل لأبرز الأدباء والشعراء، وصدمت حينما عرفت أنها المدرسة الإعدادية. 
فكان سؤالي البديهي: "ولكن لا أرى للمدرسة سوراً يمنع خروج الطلبة أثناء الدوام؟" نظر إلي المستمعون بتعجب: "سور؟ لدينا الطلبة لا يهربون من المدرسة، لماذا نحتاج إلى سور؟". احتاج الأمر بعد ذلك عددا من النقاشات والبحث المستفيض لفهم الظاهرة "طلبة في سن المراهقة يذهبون طواعية إلى المدرسة، ولا يهربون منها رغم كل الملذات والمغريات البارزة لمن ينظر من أي من نوافذ المدرسة.

المرحلة الوحيدة التي يسمح لإدارتها ببناء "سور" هي مرحلة رياض الأطفال ولدواعي الأمن والسلامة فقط لا غير، وفي كثير من الأحيان يكون السور متوسط الارتفاع لإن من حق ولي الأمر أن يطلع على ما يحدث بداخل أسوار المدرسة في أي وقت وليس من حق المدرسة المداراة على أي من التصرفات أو السلوكيات التي تحدث بالداخل تحقيقاً لمبدأ الشفافية. أما في الابتدائي فمن أوائل الأمور التي يتعلمها الطلبة هي أمور السلامة ومن بينها أن الشارع ليس بنفس درجة الأمان والسلامة التي يتميز بها ملعب المدرسة لوجود السيارات وبالتالي تخطي حدود المدرسة إلى الشارع أمر غير آمن.

ولكن السؤال الأهم: ما الذي جعلهم يحبون المدرسة إلى هذا الحد؟ ما الذي جعل المدرسة أكثر إغراءً ومتعة عما في الخارج من مقاه وصالات للألعاب بل وفتيات على قارعة الطرق؟

لماذا يبقون في الداخل؟
الإجابة لها أكثر من شق. أولاً: يعتبر من أهم أدوار الوالدين قبل إرسال الابن أو الابنه للمدرسة هو "مناقشة ماهية هذا المكان" وذلك بصورة تعلوها قيمتا الصدق والإيجابية. فمن ناحية يتم مناقشة فكرة "التعلم" وأهمية وأثر هذا الأمر في حياة الإنسان اليومية من خلال المقارنة بحال غير المتعلمين، أكان بالإشارة إلى الدول الأخرى أو الطبقات الاجتماعية التي تتفشي فيها الأمية.

والأمية هنا بالنسبة للوالدين لا تقتصر على القراءة والكتابة ولكنها تتعداهما إلى أمية عصر المعلومات، فيتم المقارنة بين من يفتح جهاز اللاب توب ليفتح أبواب المعرفة اللامتناهية وبين من هو أميّ في هذا المجال ويقتصر علمه على المكتوب ورقياً، ومن أهم المقارنات التي يستخدمها الأبوين المقارنة بين جيل ما بعد الإنترنت والأجيال السابقة، المقارنة بين سرعة تطبيق واستخدام أي منتج جديد في عالم الألفية الجديدة وفي العوالم السابقة.

وأهم من كل تلك المعلومات هي طريقة الوالدين في تقديم صورة "المدرسة" كمكان للمتعة والمرح والسعادة، المكان الآمن المتقدم، حيث تبني الصداقات ويتم التعرف على نماذج أخرى من البشر (بعيداً عن حيز الأسرة الضيق) حيث تكثر أشكال وأنواع الألعاب، حيث المعلمة المتخصصة في فن الحكي، حيث دروس الفن والموسيقي والألعاب الرياضية، حيث المساحات الواسعة للتعرف على العالم الخارجي أكان من خلال التخييم أو الرحلات الترفيهية أو التعليمية.

أما الشق الثاني فيقع على المدرسة نفسها: التي تترجم كلام الوالدين بصورة حقيقية، الهيئة المدرسية تدرك تماماً أنها ليست سجناً وأن من جاءها جاء طواعية، وبالتالي من واجبها الحفاظ عليه بشتى الطرق، الأمر لا يتعلق لا من بعيد ولا من قريب بالأمور المالية، فالحكومات هي الداعمة للعملية التعليمية والضامن لحقوق المعلمين المادية والأدبية، وبالتالي العلاقة بين الهيئة المدرسية والطلاب، علاقة إنسانية بحتة، لا يسودها سوى الرغبة في مصلحة الطرف الآخر، المعلم يريد أن يترك بصمة إيجابية في حياة الطالب والطالب من ناحيته يريد أن يترك للمعلم ذكرى طيبة، الأمر في غاية البساطة.

الإدارات التعليمية تتيح مساحات من الاستقلالية للمدارس فهي لا تراجع بصورة مركزية إلى أي الصفحات وصل المعلم ولا يهمها مراجعة كافة الكراسات التي قد تم التعليم عليها باللون الأحمر، دلالة على أن المعلم قام بواجبه بتصحيح كافة الواجبات، الإدارات يعنيها المخرج النهائي (الطالب) وبالتالي تتنافس المدارس في مجالات أوسع من مجرد القدرة على إتمام الكتاب المدرسي، فالمنافسات تتعدى المجال الأكاديمي إلى المجالات العلمية والفنية والرياضية، الابتكار في طرائق التدريس، الإبداع في تطويع التكنولوجيا لتوصيل المعلومات، القدرة على إمتاع الطلاب، ابتكار وسائل أحدث لمراعاة الفروق الفردية، تحويل المواد من مواد صماء إلى مواد ارتباطها بالحياة اليومية المعاشة أمر جلي وواضح للعيان.

أما الشق الثالث فيقع على الإعلام الذي لا يركز على السلبيات والقصور بداخل هذه المدرسة أو تلك، بل ينقب على التميز ليبرزه، يبحث عن الإبداع ليلقي الضوء عليه ويغوص في التفاصيل لمعرفة مكامن الإبداع والابتكار في العملية التعليمية لنشر الإيجابيات، وبهذه الطريقة يترسخ في ذهنية المتلقي الدور الجبار الذي تلعبه المدرسة ويقوم به التربويون والإداريون في النهوض بالأبناء وفي تحويل المسار التعليمي من مسار ثقيل وسيئ السمعة إلى مسار ممتع مبدع ومتطور.

أصل الفكرة
وترجع في الأصل فكرة عدم بناء الأسوار إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبصفة خاصة في دول شمال أوروبا، حيث كان هناك تخوف من انتشار السل بين الطلبة والرغبة في أن يتعرض الطلبة للهواء الطلق من ناحية، وانتشار فكرة ضرورة تعرض الطلبة للطبيعة والهواء النقي. وبصفة خاصة في المدن الصناعية الكبرى التي كان سكانها يعانون من التهوية السيئة وتلوث الجو بسبب المصانع المتاخمة.

إلا إن الفكرة تحولت من مجرد هاجس صحي إلى تيار فكري جديد انتشر بسرعة في ألمانيا تحت عنوان "مدارس الغابة" وتم افتتاح المدرسة الرسمية الأولى التي تخلو من أي أسوار في غابة "شارلوتن برغ" في عام 1904 حيث كان الهدف هو تعرض الطلبة لأطول فترة ممكنة للشمس والهواء النقي من ناحية وتربية الطلبة على شيء من الاستقلالية والثقة بالنفس من خلال التعامل مع البيئة المحيطة.

جدير بالذكر أن معظم الدول الأوروبية لا تعرف ظاهرة المتسربين أو الهاربين من المدرسة فهي نادرة الحدوث بالرغم من أن المدراس هناك تخلو مما يعيق عملية الهرب، بينما نحن في عالمنا العربي ما زلنا نعيش في وهم أن الجدران والأسوار الشاهقة هي الحامي والحارس للعملية التعليمية والمانع من التسرب والهروب.


دلالات