اتّخذ محامون فرنسيّون قراراً بالبحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى وفاة مسنين في دور الرعاية نتيجة فيروس كورونا الجديد. والأسئلة كثيرة: هل هناك تقصير؟ هل يتحمّل أشخاص في مواقع القرار المسؤولية؟ التحقيق سيطول، لكنهم مصرّون على الحقيقة
لا يشكّ كثيرون في فرنسا بأنّ محاسبة المسؤولين عن التقصير في مواجهة وباء كورونا قادمةٌ. السؤال يتعلق بالوقت فقط أو لنقل بالمواعيد. فالملفات التي تُفتح والدعاوى التي تُرفع والجهات المخوّلة البحث فيها، باتت أكثر من أن تُختصر في مكان واحد. حتى داخل الملفّ الواحد، كما هو الحال في ملف دور المسنين، التي شهدت مآسيَ ووفياتٍ جماعية خلال الأسابيع الماضية، تبدو الأمور متشعّبة إلى درجة يصعب معها تتبع مسار واحد لقضية تبدو في نهاية المطاف قضيةً واحدة. فالدعاوى حول التقصير في حماية المقيمين فيها، وعدم توفير ما يلزم لتجنيبهم عدوى فيروس كورونا، تنتشر في أكثر من مدينة في البلاد من غراس جنوب البلاد إلى باريس ونانتير شمالها.
لكنّ تشعّب هذه الدعاوى يعطي انطباعاً بأنّ المسؤولين عن التقصير موزعون هنا وهناك، ما قد يكون مخالفاً للواقع. هذا ما يراه المحامي كريستوف ليغُفاك، الذي تقدّم مع محاميين آخرين، هما فرانسوا رولمان وجيرالدين أدري لاشكار، بطلب إلى وزارة العدل الفرنسية بغرض جمع الدعاوى الخاصة بملف دور المسنين في قضية واحدة، واقترحوا محكمة مختصة بالصحة في مدينة مرسيليا (جنوب) مكاناً للبتّ فيها، لأنّ "محاسبة المسؤولين الثانويين لا تكفي، بل يجب الوصول إلى أصحاب القرارات الاقتصادية والسياسية".
ويقول ليغُفاك لـ "العربي الجديد" إنّه حصل وزميليه على توكيلات من عشرات العائلات للبحث في وفاة أقرباء لها في دور المسنين. "وبما أننا نعتقد أنّه من غير المنطقي فتح دعاوى متفرقة عدة، فقد قررنا الاستناد إلى مادة في القانون الجنائي تتيح تجميع الدعاوى أمام هيئة قضائية واحدة مختصة بالقضايا الصحية". والهدف من ذلك مزدوج، وهو تحويل الملف إلى قضيةّ تعني فرنسا بأكملها لا أشخاصاً فحسب، وإحالة الملف إلى هيئة قضائية يعمل فيها قضاة متابعون للشأن الصحي يساعدهم فريق من المستشارين العاملين في القطاع الصحي من ناحية أخرى.
ولا تُفهم رغبة ليغُفاك وزميليه بحصر القضية في مكان واحد إلا إذا عرفنا أنّ غالبيّة دور المسنين في فرنسا، البالغ عددها 10 آلاف و600، تعود ملكيتها إلى الدولة (التي تستحوذ في إحصائية تعود إلى عام 2017 على 43 في المائة منها)، وإلى عدد قليل من الشركات الخاصة (تملك أكثر من 25 في المائة منها)، في حين تستحوذ جمعيات غير ربحية على ما تبقى. هذا يعني، بعبارة أخرى، أن مسؤولية غالبية الدور تعود في نهاية المطاف إلى أشخاص قليلين. يقول: "ستكون هناك درجات عدة من البحث عن المسؤولية. سنرى، أولاً، إن كان هناك خطأ وراء وفاة شخص ما في دار المسنين، ثم سنبحث في ما إن كان الخطأ يعود إلى سوء تصرف مدير المؤسسة، أو إلى سياسة متعمّدة فُرضت عليه. وفي الحالة الأخير، علينا البحث عن الذين فرضوا سياسة كهذه: هل هم مالكو الأسهم الذين يبحثون عن زيادة أرباحهم؟ أم هل حدث الخطأ لأن الوكالة الإقليمية للصحة لم تقم بواجبها واعتبرت أن الأمر ليس بتلك الخطورة؟ لا بد من البحث عن أجوبة لأسئلة كهذه قبل الوصول إلى أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي".
وفي ما يتعلّق بإمكانية أن يكون أعضاء من الحكومة من بين "أصحاب القرار" الذين يسعى إلى تحديدهم، يقول ليغُفاك إن هذا الأمر "ممكن وغير مستبعد". لكنه يذكر بأنه لا يعمل وفق نظرة سياسية تحكم على البعض قبل توفير الأدلة، بل يسعى إلى جمع المعطيات التي ستقول هي نفسها إن كان يجب المطالبة بإدانة هذا المسؤول أو ذاك.
وتأتي خطوة ليغُفاك في سياق تُتّهم فيه الحكومة الفرنسية والشركات المالكة لدور المسنين بعدم القيام بما يكفي لحماية المقيمين فيها المعروفين بكونهم الشريحة الأكثر هشاشة أمام الفيروس.
وكانت مئات من هذه المساكن تعاني، خلال أسابيع الوباء الأكثر شدة، من نقص في معدات الوقاية اللازمة، لا سيما الكمامات، عدا عن ندرة الفحوصات التي من شأنها كشف المصابين وعزلهم تجنّباً للعدوى. وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقتها جمعيات مهتمة بالموضوع وشخصيات طبية مع بداية انتشار الوباء في شهر مارس/ آذار الماضي، إلّا أن كورونا أثّر بشكل كبير على مئات من هذه المؤسسات، ما أدى إلى وفاة نحو 14 ألف مقيم فيها، ما يناهز نصف إجمالي المتوفين بفيروس كورونا في فرنسا حتى اليوم، وهي نسبة تعدّ من الأعلى في أوروبا. وهذا ما دفع ليغُفاك وزميليه إلى صياغة ملفهم على أرضية جنائية، إذ ترقى القضية إلى خانة "الجريمة" على حد قوله، مضيفاً أن الدعاوى الموكلة إليه وزميليه ستنطلق من تهمتين جنائيتين: "القتل غير المتعمد، وتعريض حياة شخص آخر للخطر".
إلا أن موعد الوصول إلى الجناة قد يطول. في هذا النوع من الملفات، قد تأخذ مرحلة جمع الأدلة "ما بين 3 إلى 5 سنوات"، ويتم بعدها ربما استدعاء هذا المسؤول أو ذاك للتحقيق معه أمام القضاء قبل توجيه التهم إليه، وربما فرض دفع تعويضات لأهالي الضحايا. ولا يحول طول المدة المحتمل دون رغبة المحامي في "الكشف عن الحقيقة، كل الحقيقة، التي يريد البعض إخفاءها". ويذكّر في حديثه لـ "العربي الجديد" بالقضية المعروفة بـ "الدم المجرثم" التي استمرت سنوات طويلة (بين عامي 1983 و2003)، لكنها أدت إلى محاكمة وزراء عن مسؤولياتهم أثناء فترة شغلهم مناصبهم، ومن بينهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق لوران فابيوس، كما شهدت إدانة وزير الصحة السابق إدمون هرفيه.
نجاة
تعمل جولي ممرّضة في دار للمسنين في برابوا قرب مدينة نانسي (شرق). وتعود ملكية المؤسّسة (حيث تعمل) إلى جمعية غير ربحية تملك ستة مساكن أخرى للمسنين في هذه البقعة من الشرق الفرنسي. وعلى الرغم من أن الأقاليم الواقعة شرق فرنسا كانت من الأكثر عرضة لوباء كورونا، إلا أن جولي تقول إن "أحداً من المقيمين أو من العاملين لم يُصَب بفيروس كورونا" في السكن الذي تعمل فيه منذ 13 عاماً، وفيه 86 شخصاً مسناً. "وأُجري لنا فحص واحد منتصف إبريل/ نيسان الماضي يُظهر إن كُنا قد أصبنا سابقاً بالفيروس أم لا. كان الفحص سلبياً لدى جميع المقيمين والعاملين".
تضيف لـ "العربي الجديد": "أثّر الوباء بشدّة على ثلاثٍ من دور الجمعية التي أعمل فيها، كما تسبب بأزمة في الكثير من دور المسنين والمستشفيات الواقعة في نانسي. في أحد الدور، وصل عدد الموظفين الذين مُنحوا إجازة للتعافي وتجنّب عدوى الآخرين إلى 18 موظفاً. أما في الدار التي أعمل فيها، فلحسن الحظ أن مشرفتنا الصحية مسؤولة سابقة في مستشفى ومتخصصة بالأمراض المعدية، وقد فرضت مبكراً ومنذ بداية مارس/ آذار تدابير وقائية مثل منع الزيارات وإيقاف تناول الطعام بشكل جماعي. بدأنا بتطبيق تعليمات كهذه قبل 10 أيام من قيام الحكومة بفرضها في كل فرنسا".
وتشير جولي إلى أن دار المسنين التي تعمل فيها مع ثلاث ممرضات أخريات وأكثر من 20 مساعدة طبية، لم تعانِ من نقص في لوازم الوقاية الصحية، مثل الكمامات والمطهرات وملابس الممرضات. أمرٌ يرتبط بأن الدار لا تعمل وفق منطق ربحي بل على أساس اجتماعيّ، وهدفها الأول تقديم الخدمة للمسنين. ليست هذه الخدمة مجانية بأية حال، إذ يدفع كل واحد من المقيمين، الذين يتجاوز متوسط أعمارهم الـ 93 عاماً، نحو 1800 يورو شهرياً، وتساعد الدولة بعضهم في دفع جزء لا بأس به، في حين يدفعون الجزء الآخر من رواتبهم التقاعدية.
لكنّ تشعّب هذه الدعاوى يعطي انطباعاً بأنّ المسؤولين عن التقصير موزعون هنا وهناك، ما قد يكون مخالفاً للواقع. هذا ما يراه المحامي كريستوف ليغُفاك، الذي تقدّم مع محاميين آخرين، هما فرانسوا رولمان وجيرالدين أدري لاشكار، بطلب إلى وزارة العدل الفرنسية بغرض جمع الدعاوى الخاصة بملف دور المسنين في قضية واحدة، واقترحوا محكمة مختصة بالصحة في مدينة مرسيليا (جنوب) مكاناً للبتّ فيها، لأنّ "محاسبة المسؤولين الثانويين لا تكفي، بل يجب الوصول إلى أصحاب القرارات الاقتصادية والسياسية".
ويقول ليغُفاك لـ "العربي الجديد" إنّه حصل وزميليه على توكيلات من عشرات العائلات للبحث في وفاة أقرباء لها في دور المسنين. "وبما أننا نعتقد أنّه من غير المنطقي فتح دعاوى متفرقة عدة، فقد قررنا الاستناد إلى مادة في القانون الجنائي تتيح تجميع الدعاوى أمام هيئة قضائية واحدة مختصة بالقضايا الصحية". والهدف من ذلك مزدوج، وهو تحويل الملف إلى قضيةّ تعني فرنسا بأكملها لا أشخاصاً فحسب، وإحالة الملف إلى هيئة قضائية يعمل فيها قضاة متابعون للشأن الصحي يساعدهم فريق من المستشارين العاملين في القطاع الصحي من ناحية أخرى.
ولا تُفهم رغبة ليغُفاك وزميليه بحصر القضية في مكان واحد إلا إذا عرفنا أنّ غالبيّة دور المسنين في فرنسا، البالغ عددها 10 آلاف و600، تعود ملكيتها إلى الدولة (التي تستحوذ في إحصائية تعود إلى عام 2017 على 43 في المائة منها)، وإلى عدد قليل من الشركات الخاصة (تملك أكثر من 25 في المائة منها)، في حين تستحوذ جمعيات غير ربحية على ما تبقى. هذا يعني، بعبارة أخرى، أن مسؤولية غالبية الدور تعود في نهاية المطاف إلى أشخاص قليلين. يقول: "ستكون هناك درجات عدة من البحث عن المسؤولية. سنرى، أولاً، إن كان هناك خطأ وراء وفاة شخص ما في دار المسنين، ثم سنبحث في ما إن كان الخطأ يعود إلى سوء تصرف مدير المؤسسة، أو إلى سياسة متعمّدة فُرضت عليه. وفي الحالة الأخير، علينا البحث عن الذين فرضوا سياسة كهذه: هل هم مالكو الأسهم الذين يبحثون عن زيادة أرباحهم؟ أم هل حدث الخطأ لأن الوكالة الإقليمية للصحة لم تقم بواجبها واعتبرت أن الأمر ليس بتلك الخطورة؟ لا بد من البحث عن أجوبة لأسئلة كهذه قبل الوصول إلى أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي".
وفي ما يتعلّق بإمكانية أن يكون أعضاء من الحكومة من بين "أصحاب القرار" الذين يسعى إلى تحديدهم، يقول ليغُفاك إن هذا الأمر "ممكن وغير مستبعد". لكنه يذكر بأنه لا يعمل وفق نظرة سياسية تحكم على البعض قبل توفير الأدلة، بل يسعى إلى جمع المعطيات التي ستقول هي نفسها إن كان يجب المطالبة بإدانة هذا المسؤول أو ذاك.
وتأتي خطوة ليغُفاك في سياق تُتّهم فيه الحكومة الفرنسية والشركات المالكة لدور المسنين بعدم القيام بما يكفي لحماية المقيمين فيها المعروفين بكونهم الشريحة الأكثر هشاشة أمام الفيروس.
وكانت مئات من هذه المساكن تعاني، خلال أسابيع الوباء الأكثر شدة، من نقص في معدات الوقاية اللازمة، لا سيما الكمامات، عدا عن ندرة الفحوصات التي من شأنها كشف المصابين وعزلهم تجنّباً للعدوى. وعلى الرغم من التحذيرات التي أطلقتها جمعيات مهتمة بالموضوع وشخصيات طبية مع بداية انتشار الوباء في شهر مارس/ آذار الماضي، إلّا أن كورونا أثّر بشكل كبير على مئات من هذه المؤسسات، ما أدى إلى وفاة نحو 14 ألف مقيم فيها، ما يناهز نصف إجمالي المتوفين بفيروس كورونا في فرنسا حتى اليوم، وهي نسبة تعدّ من الأعلى في أوروبا. وهذا ما دفع ليغُفاك وزميليه إلى صياغة ملفهم على أرضية جنائية، إذ ترقى القضية إلى خانة "الجريمة" على حد قوله، مضيفاً أن الدعاوى الموكلة إليه وزميليه ستنطلق من تهمتين جنائيتين: "القتل غير المتعمد، وتعريض حياة شخص آخر للخطر".
إلا أن موعد الوصول إلى الجناة قد يطول. في هذا النوع من الملفات، قد تأخذ مرحلة جمع الأدلة "ما بين 3 إلى 5 سنوات"، ويتم بعدها ربما استدعاء هذا المسؤول أو ذاك للتحقيق معه أمام القضاء قبل توجيه التهم إليه، وربما فرض دفع تعويضات لأهالي الضحايا. ولا يحول طول المدة المحتمل دون رغبة المحامي في "الكشف عن الحقيقة، كل الحقيقة، التي يريد البعض إخفاءها". ويذكّر في حديثه لـ "العربي الجديد" بالقضية المعروفة بـ "الدم المجرثم" التي استمرت سنوات طويلة (بين عامي 1983 و2003)، لكنها أدت إلى محاكمة وزراء عن مسؤولياتهم أثناء فترة شغلهم مناصبهم، ومن بينهم رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق لوران فابيوس، كما شهدت إدانة وزير الصحة السابق إدمون هرفيه.
نجاة
تعمل جولي ممرّضة في دار للمسنين في برابوا قرب مدينة نانسي (شرق). وتعود ملكية المؤسّسة (حيث تعمل) إلى جمعية غير ربحية تملك ستة مساكن أخرى للمسنين في هذه البقعة من الشرق الفرنسي. وعلى الرغم من أن الأقاليم الواقعة شرق فرنسا كانت من الأكثر عرضة لوباء كورونا، إلا أن جولي تقول إن "أحداً من المقيمين أو من العاملين لم يُصَب بفيروس كورونا" في السكن الذي تعمل فيه منذ 13 عاماً، وفيه 86 شخصاً مسناً. "وأُجري لنا فحص واحد منتصف إبريل/ نيسان الماضي يُظهر إن كُنا قد أصبنا سابقاً بالفيروس أم لا. كان الفحص سلبياً لدى جميع المقيمين والعاملين".
تضيف لـ "العربي الجديد": "أثّر الوباء بشدّة على ثلاثٍ من دور الجمعية التي أعمل فيها، كما تسبب بأزمة في الكثير من دور المسنين والمستشفيات الواقعة في نانسي. في أحد الدور، وصل عدد الموظفين الذين مُنحوا إجازة للتعافي وتجنّب عدوى الآخرين إلى 18 موظفاً. أما في الدار التي أعمل فيها، فلحسن الحظ أن مشرفتنا الصحية مسؤولة سابقة في مستشفى ومتخصصة بالأمراض المعدية، وقد فرضت مبكراً ومنذ بداية مارس/ آذار تدابير وقائية مثل منع الزيارات وإيقاف تناول الطعام بشكل جماعي. بدأنا بتطبيق تعليمات كهذه قبل 10 أيام من قيام الحكومة بفرضها في كل فرنسا".
وتشير جولي إلى أن دار المسنين التي تعمل فيها مع ثلاث ممرضات أخريات وأكثر من 20 مساعدة طبية، لم تعانِ من نقص في لوازم الوقاية الصحية، مثل الكمامات والمطهرات وملابس الممرضات. أمرٌ يرتبط بأن الدار لا تعمل وفق منطق ربحي بل على أساس اجتماعيّ، وهدفها الأول تقديم الخدمة للمسنين. ليست هذه الخدمة مجانية بأية حال، إذ يدفع كل واحد من المقيمين، الذين يتجاوز متوسط أعمارهم الـ 93 عاماً، نحو 1800 يورو شهرياً، وتساعد الدولة بعضهم في دفع جزء لا بأس به، في حين يدفعون الجزء الآخر من رواتبهم التقاعدية.