تجاوزت المائة عام من العمر. لكن ذاكرتها لم تخنها، وما زالت تحكي عن فلسطين كما تذكرها، والاستعمار الإنكليزي والنكبة
غرب مخيّم النصيرات وسط قطاع غزة، وتحديداً في أرض أبو زكري التي يسكنها أهالي تلك العائلة التي هجرت من بئر السبع خلال النكبة، تجلس مسنة تجاوزت المائة عام من العمر، في غرفة صغيرة صممتها بنفسها قبل عشرين عاماً. وعلى مقربة منها أشجار الزيتون التي زرعتها بنفسها، وبعض مستلزمات سرج الخيول ومنتجات الصوف التي قامت بتطريزها.
وما زالت تحتفظ بذاكرة قوية لسرد القصص عن حياة الفلسطينيين في قديم الزمان، مروراً بحقبة الانتداب البريطاني، والنكبة والتهجير، والتي كانت تحكيها لأبناء العائلة وأحفاد أحفادها الذين كبروا على الاستماع إلى حكاياتها.
حربة عيادة أبو زكري ولدت في العام الذي غزا فيه الجراد فلسطين وبلاد الشام، ما دفع والدتها إلى إطلاق هذا الاسم عليها (حربة مشتق من المحاربة). وبحسب ما وثّق في الأرشيف العثماني، حدث ذلك في مارس/ آذار عام 1915. بذلك، يكون عمر حربة قد تجاوز 104 سنوات. تقول إن ذاكرتها ذاكرة طفلة. وما زالت تحتفظ بلهجتها البدوية الأصلية التي تغيّرت في الوقت الحالي، وباتت ممزوجة باللهجة المدنية والزراعية على حد قولها.
تقول حربة: "لم يكن لدينا قوشان (شهادة ميلاد)، لكنني عشت حياة البداوة مع أسرتي وحفظت تقاليدهم الأصلية. كان والدي يخبرني عن العام الذي ولدت فيه ومكافحة الجراد. كان يخبرني أنه لم يهتم لولادتي بسبب انشغاله مع المزارعين من سكان المنطقة بمكافحة انتشار الجراد".
وتذكر أن أكثر ما كان يخيفها هو الجيش الإنكليزي الذي كان يعمد إلى تفتيش خيامهم خشية امتلاكهم أي نوع من الأسلحة. "كانوا يرعبون الأطفال ويجبرون النساء والصغار على الخروج من الخيمة، ثم يبدؤون التفتيش وتخريب أدوات وأثاث المنزل. وكانت عقوبة من يثبت أن في حوزته سلاحاً التعذيب والسجن ستة أشهر ومصادرة السلاح".
كما تتحدث عن معاناة العائلات في ظلّ الانتداب الإنكليزي، الذي ساعد على هجرة اليهود ودعم الجماعات الصهيونية، في وقت منع الفلسطينيين من مقاومتهم. "أذكر الإعدامات الميدانية التي كان الجيش الإنكليزي يقوم بها بحق المقاومين الفلسطينيين، من بينهم أفراد من عائلتها".
وكانت ترى آثار أساليب التعذيب خلال عودتهم إلى الخيام، مثل الضرب بالفلقة والكي وحرق الشوارب وخلع الأظافر والشنق حتى انتزاع الاعتراف منهم، وقد يموت البعض من جراء التعذيب. تضيف: "أذكر أن أمي سجنت لمدة ثلاثة أيام لدى الجيش الإنكليزي كي تخبرهم بالأشخاص الذين يحملون السلاح من عائلتنا ومنطقتنا. كانوا يجبروننا على دفع ضريبة على الزرع والمواشي التي نربيها. لكن على الرغم من ذلك، كنت أحب حياة البداوة، خصوصاً عندما أتناول وأشقائي فريكة القمح وفريكة الشعير. كنا نزرع العدس والفول والشعير، وكان المطر وفيراً جداً".
اقــرأ أيضاً
تزوجت حربة في بئر السبع حين كانت في 13 من عمرها وأنجبت طفلين، لكنها انفصلت عن زوجها. وقبل سنوات الهجرة، تزوجت من ابن عمها حماد. وفي وقت لاحق، نزحت وعائلتها إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، ثم إلى أرض لزراعتها كما كانوا يزرعون في بئر السبع.
أنجبت حربة تسعة أبناء في غزة، وحكت لهم حكايات كثيرة إلى أن صار لديها أحفاد، وصار لدى أحفادها أحفاد. ولطالما أخبرتهم عن والدها الشهيد عيادة أبو خوصة، الذي فقدته حين نفذت قوات الجيش الإسرائيلي عملية "يؤاف" في أوكتوبر/ تشرين الأول عام 1948، التي احتلت على أثرها بئر السبع، وبدأت تطهيرها مع بقاء عدد قليل من العائلات، كما تقول.
وعن النكبة، تقول: "خرجنا من مناطقنا بعدما أوهمتنا الجيوش العربية بأننا سنعود، علماً أن حكاماً عربا في ذلك الوقت كانوا يعرفون ما يخطط له اليهود. كذبوا علينا كثيراً. قاوم أبي وأعمامي والكثير من البدو والفلاحين، لكننا لم نكن نملك ما يملكه اليهود من معدات وأسلحة. وليس هناك فضل على الفلسطينيين من أحد من العرب. ولن يعيد فلسطين سوى الفلسطينيين أنفسهم".
تحافظ حربة على نمط حياتها كما كانت في بئر السبع. تستيقظ كل صباح وتشرب الحليب الطازج وتأكل الزعتر والجبن البلدي والخضار. ولا تأكل إلا من لحوم الدواجن البيتية. تقول إن العمر الطويل يبنيه بني آدم نتيجة أكله ما يربيه بنفسه، لأنه لا يمكنه أن يغش نفسه كما يمكن أن يغشه آخرون".
استطاعت حربة على مدار عشرات السنين زراعة أشجار الزيتون على مساحة 800 متر مستفيدة من ميراث زوجها الذي توفي عام 1993. واليوم، تعيش في الغرفة التي عاشت فيها مع زوجها، وهي عبارة عن أسقف إسبستية يغطيها الجريد من الخارج. ولا تحب مغادرة هذا المكان الذي شكلت فيه الكثير من الذكريات.
وما زالت تحتفظ بذاكرة قوية لسرد القصص عن حياة الفلسطينيين في قديم الزمان، مروراً بحقبة الانتداب البريطاني، والنكبة والتهجير، والتي كانت تحكيها لأبناء العائلة وأحفاد أحفادها الذين كبروا على الاستماع إلى حكاياتها.
حربة عيادة أبو زكري ولدت في العام الذي غزا فيه الجراد فلسطين وبلاد الشام، ما دفع والدتها إلى إطلاق هذا الاسم عليها (حربة مشتق من المحاربة). وبحسب ما وثّق في الأرشيف العثماني، حدث ذلك في مارس/ آذار عام 1915. بذلك، يكون عمر حربة قد تجاوز 104 سنوات. تقول إن ذاكرتها ذاكرة طفلة. وما زالت تحتفظ بلهجتها البدوية الأصلية التي تغيّرت في الوقت الحالي، وباتت ممزوجة باللهجة المدنية والزراعية على حد قولها.
تقول حربة: "لم يكن لدينا قوشان (شهادة ميلاد)، لكنني عشت حياة البداوة مع أسرتي وحفظت تقاليدهم الأصلية. كان والدي يخبرني عن العام الذي ولدت فيه ومكافحة الجراد. كان يخبرني أنه لم يهتم لولادتي بسبب انشغاله مع المزارعين من سكان المنطقة بمكافحة انتشار الجراد".
وتذكر أن أكثر ما كان يخيفها هو الجيش الإنكليزي الذي كان يعمد إلى تفتيش خيامهم خشية امتلاكهم أي نوع من الأسلحة. "كانوا يرعبون الأطفال ويجبرون النساء والصغار على الخروج من الخيمة، ثم يبدؤون التفتيش وتخريب أدوات وأثاث المنزل. وكانت عقوبة من يثبت أن في حوزته سلاحاً التعذيب والسجن ستة أشهر ومصادرة السلاح".
كما تتحدث عن معاناة العائلات في ظلّ الانتداب الإنكليزي، الذي ساعد على هجرة اليهود ودعم الجماعات الصهيونية، في وقت منع الفلسطينيين من مقاومتهم. "أذكر الإعدامات الميدانية التي كان الجيش الإنكليزي يقوم بها بحق المقاومين الفلسطينيين، من بينهم أفراد من عائلتها".
وكانت ترى آثار أساليب التعذيب خلال عودتهم إلى الخيام، مثل الضرب بالفلقة والكي وحرق الشوارب وخلع الأظافر والشنق حتى انتزاع الاعتراف منهم، وقد يموت البعض من جراء التعذيب. تضيف: "أذكر أن أمي سجنت لمدة ثلاثة أيام لدى الجيش الإنكليزي كي تخبرهم بالأشخاص الذين يحملون السلاح من عائلتنا ومنطقتنا. كانوا يجبروننا على دفع ضريبة على الزرع والمواشي التي نربيها. لكن على الرغم من ذلك، كنت أحب حياة البداوة، خصوصاً عندما أتناول وأشقائي فريكة القمح وفريكة الشعير. كنا نزرع العدس والفول والشعير، وكان المطر وفيراً جداً".
تزوجت حربة في بئر السبع حين كانت في 13 من عمرها وأنجبت طفلين، لكنها انفصلت عن زوجها. وقبل سنوات الهجرة، تزوجت من ابن عمها حماد. وفي وقت لاحق، نزحت وعائلتها إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، ثم إلى أرض لزراعتها كما كانوا يزرعون في بئر السبع.
أنجبت حربة تسعة أبناء في غزة، وحكت لهم حكايات كثيرة إلى أن صار لديها أحفاد، وصار لدى أحفادها أحفاد. ولطالما أخبرتهم عن والدها الشهيد عيادة أبو خوصة، الذي فقدته حين نفذت قوات الجيش الإسرائيلي عملية "يؤاف" في أوكتوبر/ تشرين الأول عام 1948، التي احتلت على أثرها بئر السبع، وبدأت تطهيرها مع بقاء عدد قليل من العائلات، كما تقول.
وعن النكبة، تقول: "خرجنا من مناطقنا بعدما أوهمتنا الجيوش العربية بأننا سنعود، علماً أن حكاماً عربا في ذلك الوقت كانوا يعرفون ما يخطط له اليهود. كذبوا علينا كثيراً. قاوم أبي وأعمامي والكثير من البدو والفلاحين، لكننا لم نكن نملك ما يملكه اليهود من معدات وأسلحة. وليس هناك فضل على الفلسطينيين من أحد من العرب. ولن يعيد فلسطين سوى الفلسطينيين أنفسهم".
تحافظ حربة على نمط حياتها كما كانت في بئر السبع. تستيقظ كل صباح وتشرب الحليب الطازج وتأكل الزعتر والجبن البلدي والخضار. ولا تأكل إلا من لحوم الدواجن البيتية. تقول إن العمر الطويل يبنيه بني آدم نتيجة أكله ما يربيه بنفسه، لأنه لا يمكنه أن يغش نفسه كما يمكن أن يغشه آخرون".
استطاعت حربة على مدار عشرات السنين زراعة أشجار الزيتون على مساحة 800 متر مستفيدة من ميراث زوجها الذي توفي عام 1993. واليوم، تعيش في الغرفة التي عاشت فيها مع زوجها، وهي عبارة عن أسقف إسبستية يغطيها الجريد من الخارج. ولا تحب مغادرة هذا المكان الذي شكلت فيه الكثير من الذكريات.