منذ عدة سنوات، تسيطر على الشارع الجزائري شاحنات يقودها الشبان معروفة باسم "الهربينة". وعلى الرغم من أنّها تحلّ مشكلة البطالة لدى كثيرين، فإنّها تتسبب بمشاكل عدة أيضاً.
إذا أردنا أن نؤرخ لشغف الجزائريين بالمركبات، منذ الاستقلال الوطني عام 1962، فسنجد في كلّ مرحلة مركبة معينة تمثل ذلك الشغف، علماً أنّ المركبات الفرنسية ظلت تهيمن على السوق لدواعٍ تتعلق بارتباط البلاد بالسوق الفرنسي خارج الاعتبارات الاقتصادية. وتترتّب على ذلك الشغف المؤقت بالمركبة تعابير وسلوكيات، إذ تصبح علامة على الرفاه، وأداة لإثارة الإعجاب لدى الفتيات، ومحلّ تفاخر بين الشبان، ومثاراً لأحلامهم وتطلعاتهم، فتكون حاضرة في الأعراس والمحافل والصور الاستعراضية، حتى يمكننا أن ننجز متحفاً لتلك المركبات، يرصد لنا تحولات النظرة الشعبية العامة إليها في الجزائر.
ما يثير الانتباه هو أنّ شاحنة صغيرة مخصّصة لنقل السلع، خصوصاً الخضر والفواكه والأثاث المنزلي وما إليها من أغراض خفيفة، تسمّى "الهربينة" فرضت نفسها، خلال السنوات الأخيرة، في الفضاء الجزائري، فباتت محطّ شغف الشبان واحتفائهم واستعراضاتهم المختلفة، بما فيها الغرامية، إذ انتشرت عبارة "مول الهربينة" أي صاحب "الهربينة"، في الأوساط المختلفة، بدلاً عن عبارة "مول كذا" من السيارات الأنيقة والقوية والغالية. يقول الصحافي المتخصّص في الاقتصاد أحمد راشدي، في معرض رصد سياق هذا التحوّل، إنّ هذه الشاحنة انتشرت في الشارع الجزائري بسبب فتح مجال القروض المصرفية للشباب العاطلين من العمل، إذ وافقت المصارف مباشرةً على كلّ طلب قرض يقصد صاحبه منه أن يشتريها. يتابع: "ربّما يعود الأمر إلى تواطؤ بين مستورديها ووكالة دعم تشغيل الشبان، وربّما إلى رغبة الحكومة في توفير مركبة عملية تساهم في الحدّ من بطالة الشباب". يضيف لـ"العربي الجديد": "تطابقت مواصفات هذه الشاحنة، مع تهيؤ جيل جزائريّ جديد للربح السريع، فكان إقباله عليها قوياً، ثمّ حدث تواطؤ خفيّ بين الشبان العاطلين من العمل ومحدودي الدخل، على رفعها إلى مقام المركبة النموذج، في ردّ فعل منهم على أبناء البرجوازيّة الطارئة بسبب الفساد، في المرحلة البوتفليقية، كنوع من المقاومة النفسية بين الطبقات".
يذكر راشدي بعض مواصفات "الهربينة" مثل صغر الحجم وسهولة الركن، في شارع جزائريّ بات مزدحماً، بالإضافة إلى قلّة استهلاك الوقود، والقدرة على التسلل بين المركبات في الطريق، ووفرة قطع الغيار الخاصة بها، وسهولة الوصول إلى الدروب والأزقة الصّعبة، وإمكانية توفير أكثر من طلبية للزبائن في يوم واحد.
وجه الخير
يصف الشاب علاء شاحنة "الهربينة" بوجه الخير: "هي توفر لقمة العيش لصاحبها وأسرته، مهما كانت الطلبيات قليلة، لأنّ الحاجة إلى خدماتها تظل قائمة". يلفت إلى معطىً غير مرصود، هو أنّ معظم الشبان الذين يملكونها تزوجوا باكراً "في مقابل تأخّر زواج الشبان الموظفين لدى الشركات والمؤسسات الحكومية والخاصة، بسبب تدني الرواتب". وقد لا يستطيع سائق الهربينة، كما يقول علاء، أن يصل إلى الثراء، لكنّ جيبه لا يخلو من المصروف اليوميّ، الذي يكفي أسرته ويكفي حاجاته الخاصة: "هو ما يفسر ميل الفتيات إليه أكثر من صاحب السيارة الفارهة، إذ أصبحت عبارة مول الهربينة مرتبطة بالنشاط وعرق الجبين والعضلات المفتولة، في مقابل ارتباط أصحاب السيارات الفارهة بالاتكال على الآباء الأثرياء".
على مداخل التجمعات السكنية وعند جوانب الطرقات يركن الشبان "هربيناتهم" المحمّلة بالخضر والفواكه، منافسين بذلك البائعين المرخصين. وفي محاولة لرصد الفارق بين الأسعار المعتمدة من الطرفين، تبيّنت لـ"العربي الجديد" تخفيضات لافتة لدى أصحاب "الهربينات". ينفي أحدهم أن يكون عدم خضوع نشاطهم للضرائب وتكاليف الإيجار هو سبب تلك التخفيضات: "بل بسبب الروح الشعبية لدينا أيضاً. فنحن أبناء أحياء فقيرة، وقد كنّا قبل أن نكسب هذه الشاحنات غارقين في الحاجة، حتى إنّ الواحد منّا كان يجد صعوبة في تدبّر سيجارة وقهوة الصباح. وهذه الخلفيّة هي التي جعلت أسعارنا رحيمة".
وجه الشرّ
لا نجد في قائمة من يكره "مول الهربينة" التجار والناقلين الرسميين فقط، من باب المنافسة، بل أيضاً مستخدمي الطرقات، سائقين وراجلين، بسبب التهوّر الواضح، الذي يقود به سائقو "الهربينة"، حتّى إنّ الفرق عند بعضهم ينتفي بين السير والطيران، وهي النّزعة التّي جعلت سائقي هذه الشّاحنة في صدارة المتسببين في حوادث المرور، خلال السنوات الخمس الأخيرة، بحسب تقارير أمنية وشهادات للمواطنين. يلخص منشور على "فيسبوك" أخلاق سائقي "الهربينة" بالقول: "يتسللون بين السيارات، ويتجاوزون حيث لا يسمح لهم بذلك، ولا يحترمون الضوء الأخضر، كأنّهم يحملون مريضاً في حالة خطر إلى المستشفى، ويرفعون صوت الموسيقى، ويشتمون الناس". وتقول تدوينة ساخرة في "منتدى البرواقية": "يا جماعة الهربينة مهلاً. نحن إخوتكم في الإسلام. لقد أصبحنا نوحّد الله حين تخرجون علينا".
وتأكّد التهور لدى سائقي الشاحنة التي باتت تُصنّع محلّياً منذ إبريل/ نيسان 2018، من خلال الحادث الذي وقع في مدينة سيدي عبد العزيز، 400 كيلومتر إلى الشرق من الجزائر العاصمة، عشيّة الاحتفال بتأهل المنتخب الوطني لكرة القدم إلى نهائي كأس أمم أفريقيا في القاهرة في يونيو/ حزيران الماضي، إذ اصطدمت شاحنة "هربينة" مع مركبة أخرى، ما أدى إلى 19 ضحية ما بين قتيل وجريح.
سياقات نفسية
في معرض قراءة الخلفيات النفسية لتهوّر سائق "الهربينة" الجزائري يقول المتخصص النفسي بوحجر بوتشيش لـ"العربي الجديد" إنّ معظم سائقي هذه المركبة تربّوا على قيادة الدراجات النارية، التي تسمح بالتجاوز في الطرقات، وتحمل صاحبها على الاستعراض: "هكذا حافظوا على الروح نفسها، مع عدم مراعاة اختلاف خصائص المركبتين". يضيف بوتشيش عاملين آخرين هما: "روح الجشع التي تحمل صاحبها الآتي من مستوى معيشي هش على الإسراع، حتى يتمكن من الظفر بأكبر عدد من الطلبيات، بالإضافة إلى الاستعراض أمام الفتيات، اللواتي بتن يربطن القيادة السريعة بالرجولة وقوة الشخصية".
أمام هذا الواقع، ظهرت دعوات في مواقع التّواصل الاجتماعيّ إلى احتفالات رياضية من دون مركبات، وأخرى تطالب السلطات بسنّ قوانين منظمة لسير هذه الشاحنات، التي لم يعد الجزائريون يدرون هل يعتبرونها فأل خير أم شرّاً.