تنشط جمعيات باسم القرى الفلسطينية المحتلة عام 1948 والتي هجّر أهلها منها في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية والشتات. هذه الجمعيات تحفظ حق العودة وتنقله إلى الأجيال الشابة، وتربط بين أبناء القرية الواحدة
أراد المهندس حسن أبو شلبك، الذي ولد قبل عامين من النكبة والتهجير في قريته لفتا، غربي القدس، أن يؤسس عام 1982، مع عدد من أبناء قريته ممن هجّروا إلى رام الله والبيرة، وسط الضفة الغربية، جمعية تحمل اسم بلدتهم لفتا، فكان رفض من سلطات الاحتلال للاسم أولاً، ثم لاثنين من أفراد الهيئة التأسيسية، من بينهما أبو شلبك بالذات.
تأسست الجمعية بعد مرور عام على تقديم الطلب باسم آخر وهو "جمعية حماية الأسرة والطفولة" وبإدارة من تمكنوا من تسجيل أسمائهم رسمياً، فالأشخاص ليسوا الأهم، كما يقول أبو شلبك، بل الفكرة، لكنّه ظل مرتبطاً بإدارة الجمعية من خلف الكواليس، وعاد، كما يروي لـ"العربي الجديد"، إلى الهيئة الإدارية للجمعية رسمياً بعد إجراء انتخابات داخلية لاحقاً.
مقر جمعية لفتا في البيرة (العربي الجديد) |
ذلك التدخل الإسرائيلي يلخص أهمية دور المؤسسات المجتمعية للقرى التي هجرت عام 1948، كحاضنة جامعة لأهالي تلك القرى في مواجهة التهجير، والحفاظ على حق العودة، فـ"جمعية لفتا الخيرية"، كما أصبح اسمها بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، ليست الوحيدة. في رام الله والبيرة العديد من المؤسسات والجمعيات للقرى المهجرة تنضوي تحت لواء "تجمع القرى المهجرة"، كما هي الحال في كلّ مكان يوجد فيه اللاجئ الفلسطيني.
ما يجمعهم
بقي مجتمع لفتا المهجرة محافظاً على كيانه نوعاً ما بعد النكبة، كما يؤكد أبو شلبك، بالتكتلات العائلية، ومشاركة أهالي القرى بالمناسبات، والتآخي، فبعدما فقد الناس أملاكهم وأرزاقهم، لم يبقَ لهم إلّا المحافظة على العادات والتقاليد والروابط العائلية والقروية. التفكير في تأسيس الجمعية جاء كحاجة في ظل الاحتلال وانقطاع الأهالي عن التواصل مع الجمعية التي أسست في الأردن. بات دور الجمعية تحت الاحتلال في خدمة المجتمع، فأقيمت عيادة صحية، وأقيمت النشاطات الاجتماعية والاحتفالات الموسمية ومشاريع تأهيل الأطفال، إضافة للدور الوطني في الانتفاضات كحال كلّ فلسطيني.
من جهته، يشير المهندس عزمي الخطيب، رئيس "جمعية قالونيا الخيرية" وأحد مؤسسيها، في حديث إلى "العربي الجديد"، إلى أنّ جهود أهل قريته قالونيا، كانت مبعثرة على مدار سنوات طويلة قبل أن يقرروا إنشاء جمعيتهم عام 1997، التي جاءت لإعادة توحيد تلك الجهود.
لـ"جمعية لفتا الخيرية" الآن مقر في مدينة البيرة، وسط الضفة الغربية، وتسعى إلى بناء مبنى آخر على أرض تبرع بها أحد أبناء القرية، بحسب أبو شلبك. وقد نظمت الجمعية انتخابات، الشهر الماضي، أسست لإدارة جديدة. في السياق، يقول عضو الهيئة الإدارية الجديدة سفيان عدوي، لـ"العربي الجديد": "الجمعية تحمل رسالة الحفاظ على جذور سكان القرية وارتباطهم ببلدتهم، لتحمل الأجيال الجديدة حلم الآباء والأجداد الذين هُجّروا، وهو العودة". تحاول الجمعية، بحسب عدوي، الحفاظ على الرابطة بين الناس، ليس من باب القبلية العصبية، بل من باب الوطنية، والحفاظ على الترابط الأسري من خلال إيجاد القواسم المشتركة باستمرار عن طريق النشاطات التي تقيمها، وكأنّهم في لفتا.
من فعاليات جمعية قالونيا (العربي الجديد) |
داخل الجمعية، تقام بيوت العزاء التي يشارك فيها كلّ لفتاوي من باب أداء الواجب بما يعنيه من تواصل دائم للأهالي، بالإضافة إلى إقامة مهرجانات سنوية تجمعهم: مهرجان تكريم المتفوقين، ومهرجان الأسرى السنوي، كذلك، الإفطار الرمضاني السنوي الذي سيقام هذا العام، السبت المقبل، وتوزيع الطرود الغذائية على العائلات المستورة، وهو ما يلعب دوراً في إبقاء المجتمع حياً بالتكافل الاجتماعي، فيساعد الناس بعضهم بعضاً. للجمعية لجان عديدة، أهمها لجنة الإصلاح، مثل أيّ قرية حية تتابع مشاكل أبنائها والخلافات بينهم وبين الآخرين، ولجنة المرأة، ولجان اجتماعية. لكنّ الجمعية في البيرة ليست الوحيدة، فهي نموذج عن عدد من التجمعات النشيطة لأهالي لفتا في القدس، والأردن، والولايات المتحدة، وغيرها من الدول التي أسست فيها جمعيات مشابهة تتعاون في ما بينها، وتجمع حولها أهالي القرية.
شباب
تبدو تجربة "جمعية قالونيا الخيرية" مشابهة، وبالرغم من أنّها تأسست بعد إقامة السلطة الفلسطينية وتحديداً في العام 1997، وليس في ظل الاحتلال المباشر، فالأهداف هي نفسها. يقول عزمي الخطيب: "الدافع الرئيس وراء تأسيسها كان شعور الأهالي بخطورة ضياع حقهم في العودة إلى قريتهم قالونيا، قضاء القدس، فاستهداف حق العودة أصبح أكثر وضوحاً في تلك الحقبة، وكان لا بد من العمل على ترسيخه، بالإضافة إلى أهداف توحيد جهود الأهالي المبعثرة والموزعة في الداخل والشتات".
لـ"جمعية قالونيا الخيرية" مقر في مدينة البيرة أيضاً. وتضم الجمعية مكتبة وقاعة للنشاطات ومقراً لفرقة كشفية وأخرى للدبكة، وتقيم مهرجاناً سنوياً لإحياء ذكرى تهجير أهالي القرية في 12/4/1948، أي قبل تاريخ النكبة بأكثر من شهر، فتدعو الجمعية أهالي القرية من كلّ مناطق الضفة الغربية، وهم موزعون على رام الله والبيرة، والخليل، وبيت لحم، وأريحا، والعيزرية، والرام، ونابلس والقدس. يجمع هذا المهرجان وغيره من النشاطات أهالي قالونيا، وتحضره العائلات بكبارها وصغارها، ويحرص المنظمون على إعطائهم ما لا يقل عن ساعة في بداية أيّ فعالية لتبادل الحديث والتعارف والتواصل قبل البدء بالبرنامج المقرر. وتقيم الجمعية حفلاً سنوياً لتكريم خريجي الثانوية العامة، والجامعات، والمعاهد، والكليات، بالإضافة إلى إفطار رمضاني سنوي لا يخلو من مناقشة قضايا القرية وحق العودة. ويقول الخطيب: "ما زلنا مجتمعاً قروياً. صحيح أنّنا مشتتون في أكثر من مكان، لكن ما زالت عقلية القرية قائمة، وما زال الحبّ والمودة والتعاضد يميز الأهالي".
يقر سفيان عدوي من "جمعية لفتا الخيرية"، بأنّ الجيل الصغير والشباب اللفتاوي ربما لا يعرفون جميعاً بعضهم البعض، خصوصاً تلاميذ المدارس، لكن، على مدار سنوات استطاعت الجمعية ربطهم ببعضهم البعض، حين يشاركون في واجباتهم الاجتماعية من أفراح وأتراح، ونشاطات عديدة. ويؤكد أنّ الجمعية ستعمل قريباً على إعادة تفعيل فرق الكشافة والفرق الفنية التي تعني مزيداً من التواصل.
أما الخطيب، فيقول إنّ "كثيراً من الشباب لم يكونوا يتواصلون مع بعضهم، لكنّ اللقاءات والمهرجانات والنشاطات الاجتماعية للجمعية باتت تضمها صفحة نشيطة على مواقع التواصل الاجتماعي، تنشر مناسبات أهالي القرية أولاً بأول، وهو ما قرّبهم أكثر". وتنظم "جمعية قالونيا الخيرية" مخيمات صيفية بشكل دوري، وتشارك فرقها الكشفية والفنية في المناسبات الوطنية العديدة رافعة اسم القرية.
عودة... لساعات
لعلّ أهم ما تفخر به مجتمعات القرى المهجرة، رحلاتها الدورية إلى قراها الأصلية، فبعد العام 2015 ينظم أهالي قالونيا زيارة بشكل شبه شهري إلى القرية، تقتصر عادة على كبار السن الذين يسمح الاحتلال بتوجههم إلى القدس عبر حواجزه في يوم الجمعة. وبحسب الخطيب، فإنّ أهالي قالونيا القاطنين في القدس ينظمون زيارات مشابهة بشكل دائم، لإبقاء التواصل مع القرية، والتعرف على معالمها الباقية بالرغم من قلتها، فمن أصل ثلاث عشرة عين ماء لم يبقَ سوى اثنتين، وبقيت بعض المعالم، بعد هدم الاحتلال معظم المنازل والمنشآت الحجرية. وحين تسنح الفرصة، يزورها الجيل الصغير، وذلك بطرق مختلفة، كان آخرها مشاركة مجموعة كشفية في إحياء يوم الإسراء والمعراج في إبريل/ نيسان الماضي.
اجتماع الهيئة الإدارية لجمعية لفتا (العربي الجديد) |
أما زياد ازمقنا، من "جمعية لفتا الخيرية"، فيقول لـ"العربي الجديد": "من أهم النشاطات التي حافظنا عليها تنظيم الزيارات للقرية، وإحياء الأعراس فيها أحياناً، ويجري تنظيم رحلتين سنوياً برفقة أحد المعمّرين ممن يتولى تعريف المشاركين بمعالم القرية، وكانت آخر تلك الزيارات في ذكرى يوم الأرض هذا العام". وعادة ما تكون الزيارات على شكل رحلة سيراً على الأقدام، للمرور على أهم المعالم، فضلاً عن الرحلات الفردية للأهالي، والوجود الدائم لأهالي القرية من حملة الهويات المقدسية، والذين استطاعوا القيام بخطوات قانونية أفشلت هدم عدد من منازل القرية الباقية قبل سنوات، حينما كان الاحتلال يسعى لإزالتها لصالح مشروع سياحي.
في هذا الإطار، يقول رئيس تجمع القرى المهجرة، عمر عساف، لـ"العربي الحديد": "أهالي كلّ قرية لهم مؤسساتهم وجمعياتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، ونشاطاتهم ورحلاتهم إلى قراهم المهجرة، وهم يحافظون بقدر ما على مناسباتهم كما كانت قبل النكبة". والعودة نقطة محورية في هذه التجمعات وهي الأساس، برأي عساف، الذي يرأس أيضاً "جمعية بيت نبالا" المهجرة، فكلّ الأنظمة الداخلية لتلك المؤسسات تجمع على صيانة حق العودة. وتنفذ الجمعيات النشاطات وتصدر الكتب بما يساعد في جعل هذا الحق ثابتاً.
تمكنت مجتمعات القرى، برأي عساف، بنسبة كبيرة، من الحفاظ على نفسها، فحيث يوجد عدد معقول من أبناء قرية ما في مكان معين تراهم مترابطين، لكن تبقى أحياناً مشكلة متعلقة بالعشائرية، فإما أن تشكل أحياناً الهيئات الإدارية لتلك المؤسسات بالحرص على تمثيل العائلات، أو أن يكون رئيس الجمعية وفقاً للاعتبارات العائلية. ويربط عساف ذلك بالواقع العام والتراجع في العمل العام، وعدم وجود مرحلة مد ثوري في هذه اللحظات، بل جزر، مؤكداً قدرة الناس على تجاوز هذه الحالة بالوعي. ويشير إلى أنّ قيام بعض هذه الجمعيات برعاية أبنائها الطلاب، وتعليم عدد منهم على نفقتها، وتكريمها لهم بالإضافة إلى الأنشطة الأخرى، يزيد من الترابط والحفاظ على المجتمع.