"العظّامة"... عراقيون نهِمون للطعام

11 مايو 2018
يُحضّر مأدبة الطعام (حيدر حمداني/ فرانس برس)
+ الخط -
يتندّر العراقيون خلال حديثهم عن "العظامة"، وهي صفة أطلقت حديثاً على الأشخاص الذين يأكلون كثيراً، ويهتمون بتتبع أخبار المناسبات وحضور الولائم. ويهتم العظامة بمعرفة أوقات المناسبات التي تقام فيها الموائد الدسمة، كحفلات الزفاف والتخرج والطهور وغيرها من المناسبات السعيدة. هؤلاء يُتابعون أيضاً أخبار الوفيات، وقد دأب العراقيّون في عرف اجتماعي قديم متوارث على أن يقدم أهل المتوفى وجبتي غداء وعشاء للفقراء، ويعمدون إلى ذبح الخراف والأبقار.

في كل حي من أحياء المدن، يعرف السكان عدداً من "العظامة"، بحسب الشيخ أحمد العبيدي، أحد وجهاء حي الأعظمية، شمال العاصمة بغداد. يقول لـ"العربي الجديد"، إن "تسمية العظامة ليست قديمة، وقد أطلقت في أوقات العنف الطائفي الذي عرفته البلاد بين عامي 2005 و2009". ويوضح أن الأشخاص الذين عُرفوا بشراهتهم في الأكل، وتقصّيهم للمناسبات لحضور ولائمها، اضطروا إلى اعتماد بطاقات تعريفية طبعوها بأنفسهم، وباتوا يُعرّفون عن أنفسهم بـ"العظامة" حتى يتمكنوا من حضور المناسبات في مناطق أخرى. هكذا يتميزون عن الغرباء، خصوصاً في ظل التفجيرات التي تستهدف التجمعات الكبيرة.

والعظامة، بحسب العبيدي، مشتقة من العظام، وتعني أن من يحمل هذه الصفة لن يترك من الطعام إلا العظام. وعلى الرغم من أنها صفة يكرهها كثيرون، إلا أن كل أصحاب هذه المناسبات ومن يحضرونها يفسحون المجال أمام العظامة، ويعطونهم كفايتهم من الطعام.



في هذا السياق، يقول قيس عرام، الذي يفخر في كونه "عظاماً لا يقارع"، إن في استطاعته تناول ما يأكله عشرة رجال. ويشير لـ"العربي الجديد"، إلى أنه يحضر أحياناً أكثر من وليمة ظهراً أو مساءً. ومن الصفات التي يشتهر بها "العظامة" أنهم لطفاء، ويرتبطون بعلاقات اجتماعية واسعة، ويملكون حساً فكاهياً، ولهم في الولائم طرائف عدة يتناقلها الناس. ويصف علي منشد، نفسه بأنه "عظام جديد"، خصوصاً أنه شاب في العشرين من العمر، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "الفقر دفعني لأكون عظاماً"، مضيفاً: "أسرتنا كبيرة ووالدي موظف بسيط ووالدتي مريضة. تأخرت كثيراً في الدراسة بسبب انخراطي في سوق العمل". يتابع: "في الولائم، أستطيع أن آكل مقدار ما يأكله عشرة رجال. وأيضاً أحمل معي الطعام إلى أهلي. لدي خمس أخوات وحالتنا المعيشية صعبة".

ليس كل العظامة فقراء، لكن بعض الرجال الميسورين الذين يحبون الأكل، يحرصون على حضور مآدب الطعام. هذا ما يقوله منير شمخي لـ"العربي الجديد"، الذي يملك مكتباً لبيع وشراء العقارات. يعترف بأنه "عظام، وأحرص على حضور الولائم للأكل". يضيف أن "تناول الطعام مع معارفي في المناسبات له طعم آخر. أشعر بالمتعة عندما أزاحمهم في الأكل. إنهم يشعرون أيضاً بسعادة حين أكون حاضراً بينهم". يتابع ضاحكاً: "أصدقائي يلقبونني بالعظّام الأكبر".

وللموائد الجماعية في العراق طقوس خاصة، لا سيما في المناسبات السعيدة وفي العزاء، إذ تمتد طاولات على مساحات كبيرة، ويوضع عليها طعام يكفي الموجودين مهما بلغ عددهم، ويتناول الحاضرون الطعام وقوفاً.

ودائماً ما يتواجد العظامة حيث الأطعمة الدسمة. يقول ناظم صبحي، وهو طباخ ولائم معروف في عدد من مناطق بغداد، إنه على علاقة بعدد كبير من العظامة، لافتاً إلى أن الأخيرين هم من يوثقون علاقاتهم به. ويرى أن العظامة "طيبون وظرفاء، وأفعالهم في الولائم تتحول إلى نكات يتندر بها الناس". يضيف لـ"العربي الجديد": "كانوا يتصلون بي يومياً ويسألونني عن مكان الوليمة أو المناسبة التي سأطهو فيها، حتى يحضروا لتناول الطعام. وكي أتخلص من اتصالاتهم، اتفقت معهم على أن أرسل إليهم رسالة موحدة عبر واتساب، أخبرهم فيها مسبقاً بالمكان الذي سأكون فيه".



يضحك صبحي كثيراً وهو يسرد مواقف طريفة للعظامة. بحسب التقاليد، يتوزع الطعام في آنيات، كل آنية تكفي شخصين إلى أربعة. ويقول: "أحدهم يدعى قاسم القرش. حين أعلم بحضوره، أضع علامة على آنية طعام أكون قد وضعت فيها كمية أكبر من اللحم له. وعندما يبدأ الشبان بنقل أواني الطعام ووضعها على الطاولات، يقف القرش وينظر إلى الآواني. وحين يرى الآنية المقصودة، يقف أمامها فيحظى بأكبر قدر من اللحم".

كما يحكي صبحي عن "العظّام حسن عواد، وهو من حي الفضل في بغداد، حضر وليمة أقامها تاجر ميسور الحال. وفرض ترتيب الوليمة أن يتقابل الضيوف على الموائد وقوفاً. وحين رأى عواد أن حصة الشخص الذي يقابله من اللحم أكثر منه، قال له: يا أخي قبل أن تأكل، هل تعلم حقيقة الكسوف والخسوف؟ فأجابه نعم. ثم قال: لا، أنت لا تعلم، وما يقوله العلماء خطأ.
فأمسك عواد بآنية اللحم التي أمام الشاب، وتابع: لنفترض أن هذا القمر، فغير مكان الآنية وجلبها نحوه، ثم أمسك بالخبز، مضيفاً: لنفترض أن هذه الشمس، ووضع الخبز أمام الشاب. هنا سترى الشمس بوضوح. ثم دفع بآنية الرز قرب الشاب، مردفاً: لكن حين يكون القمر بهذا الموضع، برأيك كيف سيكون وضع الأرض؟ وهنا بدأ عواد يأكل اللحم بسرعة، بينما الشاب بقي حائراً يفكر في وضعية الأرض".

إلى ذلك، يقول أستاذ علم النفس عبد الهادي الجنابي، إن أسباباً عدة تقف وراء وجود العظامة، مشيراً إلى أن "من بينها أمراض نفسية". يضيف لـ"العربي الجديد"، أن "البيئة لها تأثير كبير. بعض الأحياء، خصوصاً الشعبية، تقام فيها ولائم في الشوارع. وعادة ما يُجبر الناس ضيوفهم على تناول المزيد". يتابع: "ما زال هناك من يعتقد بأن على الرجل أن يأكل كثيراً، لأن هذا دليل على الرجولة بحسب المعتقدات الشعبية. ويُطلق على الأكول تسميات يفتخر بها، لأنها تدل على أنه يأكل كثيراً، ومنها عَظّام".