إعدام الأميركيين... فشل في إنصاف الفقراء والضعفاء

14 اغسطس 2017
الاحتجاجات تتزايد (برندان سميالوفسكي/ فرانس برس)
+ الخط -
تروّج الولايات المتحدة عن نفسها حول العالم أنّها رائدة الديمقراطية و حقوق الإنسان، لكنّها مع ذلك، تفشل في إلغاء عقوبة الإعدام فوق أراضيها بالذات، فكثير من الولايات ما زالت تطبقها

نفذت عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة في حق 1458 شخصاً، منذ عام 1976 حين أقرت المحكمة الدستورية الأميركية إعادة العمل بها. العام الماضي 2016 نفذت أحكام الإعدام في حق 20 شخصاً، وهذا العام نفذت في حق 16 شخصاً، إذ كانت آخر مرة في 27 يونيو/ حزيران الماضي في ولاية تكساس، بحسب مركز معلومات عقوبة الإعدام الأميركي. كذلك، ينتظر أكثر من 2900 شخص تنفيذها في حقهم في الوقت الراهن.

بين عامي 1985 و2003 نفذت العقوبة في حق 22 شخصاً أدينوا بارتكاب جرائم وهم تحت سن الرشد إلى أن منعت المحكمة الدستورية تنفيذ الإعدام في حق القصّر عام 2005. وتعمل 31 ولاية أميركية بموجب هذه العقوبة، في حين منعتها بقية الولايات الـ19 والعاصمة واشنطن في فترات لاحقة. وكانت ميشيغان أول ولاية أميركية توقفت عن العمل بعقوبة الإعدام عام 1846، وآخرها ولايتا نبراسكا وكونيكتيكت عام 2015.

بعد فوات الأوان
قد ينتظر المحكوم عليه بالإعدام تنفيذ الحكم ضده سنوات أو عقوداً، ما يترك أعباء نفسية شديدة عليه وعلى المقربين منه. وكانت المحكمة الدستورية الأميركية قد أصدرت أحكاماً عدة في قضايا مختلفة أدت إلى وقف تنفيذ عقوبة الإعدام أو وقف العمل بها بين العامين 1972 و1976، بسبب تعارضها مع الدستور الأميركي وتحديداً البند الثامن من وثيقة الحقوق والذي ينص على أنّه "لا يمكن فرض عقوبات غير عادية أو وحشية". مع ذلك، فإنّ المحكمة الدستورية، التي لم تكن قد منعتها بشكل تام أو لم تكن أحكامها قد نصت على أنّها عقوبة في حد ذاتها مخالفة للدستور بشكل قطعي، عادت وسمحت بها في العام 1976 بعد قضية "غريغ ضد جورجيا".

"لا أحد يمتلك الحق في انتزاع حياة شخص آخر، ولا حتى الحكومات" هو واحد من الشعارات التي تستخدمها "منظمة العفو الدولية" التي تعمل إلى جانب عدد كبير من المنظمات العالمية والمحلية في الولايات المتحدة، من أجل التخلص من عقوبة الإعدام في جميع أنحاء العالم. تتنافى عقوبة الإعدام مع الحقوق الإنسانية الأساسية وتعد خرقاً لها. واليوم تمنع أغلب دول العالم (140) عقوبة الإعدام. ينصّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المنبثق عن الأمم المتحدة على أنّ الحكم على أيّ شخص بالإعدام يحرمه من حقه في الحياة. كذلك، لا يمكن التراجع عن العقوبة بعد تنفيذها، خصوصاً إذا تبين لاحقاً أنّ المتهم كان بريئاً، وهو ما حدث في دول عديدة بما فيها الولايات المتحدة حيث أظهرت الإحصائيات الرسمية براءة 156 شخصاً حكم عليهم بالإعدام منذ عام 1976. لكنّ ظهور تلك الأدلة جاء متأخراً لعدد منهم لأنّ العقوبة كانت قد نفذت في حقهم.



خطاب البابا
تشهد الولايات المتحدة جدلاً حاداً حول عقوبة الإعدام بين المؤيدين والمعارضين لها، بل يمكن الحديث عن فوارق جغرافية عامة إذ تعارضها أغلب ولايات الشمال، وتؤيدها أغلب الولايات الجنوبية المعروفة في كونها ولايات محافظة تاريخياً، بل إنّ ولايتين في الجنوب تسجلان أعلى الأرقام من ناحية تنفيذ وإصدار أحكام الإعدام وهما ولايتا تكساس وأوكلاهوما اللتان نفذ فيهما نحو نصف عقوبات الإعدام منذ إعادة العمل بها عام 1976. لكن، قد يكون من المفاجئ معرفة أنّ ولاية كنيويورك (شمال) وهي من الولايات الأكثر انفتاحاً، تخلصت من عقوبة الإعدام قبل عشر سنوات فقط، أي عام 2007.

تحاول منظمات أميركية من بينها "الاتحاد القومي ضد عقوبة الإعدام" وهي مظلة لأكثر من مائة منظمة تنشط في المجال، العمل من أجل وقف عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة وحشد الرأي العام الأميركي في هذا السبيل. تقول المنظمة: "هناك أكثر من 90 مليون أميركي يعارضون هذه العقوبة". ولا تقتصر المطالبة بمنع عقوبات الإعدام على الجانب الإنساني فقط، أي في كون العقوبة تتنافى مع الحقوق الإنسانية الأساسية للبشر، بل كذلك الظلم التاريخي الذي حلّ بالأقليات وعلى وجه التحديد الأميركيين من أصول أفريقية، بالإضافة إلى تكليفها الدولة أموالاً طائلة وتشكيلها عبئاً نفسياً وجسدياً على المحكومين وأهاليهم، وفي المقابل عدم اعتبارها خلاصاً بالضرورة لأهل الضحايا إذ يعارض قسم منهم العمل بها.

بحسب العديد من الدراسات، فإنّ العقوبة تترك آثارها النفسية والجسدية كذلك على العاملين في المجال من سجانين ومنفذين للعقوبة، بالإضافة إلى أنها تتناقض مع الأسس الدينية لبعض الديانات كالكاثوليكية المسيحية، وهو ما عبر عنه بابا الفاتيكان فرانسيس في خطابه التاريخي أمام الكونغرس الأميركي في شهر سبتمبر/ أيلول 2015 إذ طالب الكونغرس بمنع عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة. ومن اللافت، في هذا السياق، أنّ نسبة كبيرة من المؤيدين لعقوبة الإعدام في الولايات المتحدة هم من أتباع الحزب الجمهوري، وهؤلاء من المتدينين المحافظين المسيحيين عامة، لكن ليسوا من الكاثوليك بالضرورة.
أسود وأبيض
كذلك، اتسع الجدل في الولايات المتحدة وعلى المستوى الدولي بسبب طريقة الإعدام، إذ تستخدم الولايات التي تعتمد العقوبة، طرقاً مختلفة لتنفيذها من بينها الإعدام رمياً بالرصاص، والشنق، والكرسي الكهربائي، والحقن القاتلة التي كانت تركّب حتى عام 2006 من ثلاثة عقاقير. ضغوط المنظمات الدولية، كما المنظمات الإنسانية المحلية، أدت إلى إحراج شركات الأدوية، وقسم منها أوروبي، لتمتنع تحت الضغط عن تقديم الخلطة للحقنة المميتة. من جهتها، ادعت إدارات السجون التي تستخدمها، أنّها لا تسبب ألماً للمحكوم بالإعدام، إلاّ أنّ حالات عدة أثبتت عكس ذلك تماماً إذ فشلت في قتل المحكوم عليه مباشرة، ما أدى إلى تعذيبه بشدة قبل الوفاة، وهو ما أثار جولة جديدة من الجدل.

أما في ما يتعلق بالتكاليف فتفيد الدراسات والإحصائيات أنّ التكاليف القضائية والإدارية للتكفل بالمحكومين بالإعدام وقضاياهم تصل بالمعدل إلى مليون دولار إضافية لكلّ حالة، بالمقارنة مع القضايا الجنائية الأخرى التي صدرت فيها محكوميات أخرى. كما لا تشكل عقوبة الإعدام بالضرورة رادعاً أو دليلاً على انخفاض نسبة الجريمة في مكان ما.

بحسب تقرير صادر عام 2013 ، قدم إلى مركز حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من قبل مركز "ذا سانتس بروجيكت" ومقره واشنطن العاصمة فإنّ "الفوارق والتمييز العنصري بسبب اللون أو الإثنية يمكن رؤيتها في أكثر حالاتها تجلياً في الأحكام الصادرة حول عقوبة الإعدام، إذ إنّ 42 في المائة ممن جرى إعدامهم أو كانوا محكومين بالإعدام في السجون الأميركية هم من الأميركيين من أصول أفريقية. وتشير دراسات عدة إلى أنّ أحكام الإعدام تتأثر بشكل قوي بأمرين: إثنية مرتكب الجريمة (أو المتهم بارتكابها) وإثنية الضحية. يضيف التقرير أنّ الاحتمال بإنزال عقوبة الإعدام على الجاني، في حال كان الضحية من ذوي البشرة البيضاء، أعلى بكثير من الحالات التي يكون فيها الضحية من الأقليات أو ليس أبيض. كذلك، يؤكد التقرير أنّ احتمالات إنزال عقوبة الإعدام بشخص جرت إدانته هي أعلى بكثير عندما يكون مرتكب الجريمة أسود. وحتى عندما يكون الضحية أسود فإنّ العقوبة بحق مرتكب الجريمة تكون غالباً أقل في حجمها أو حتى احتمالات إنزالها على مرتكب الجريمة. ومنذ عام 1976 وصلت نسبة السود الذين نفذت في حقهم عقوبة الإعدام وكان ضحاياهم من البيض إلى 13 ضعفاً من نسبة البيض الذين نفذت في حقهم وكان ضحاياهم من السود.

يختلف عالم المؤيدين لعقوبة الإعدام والمناهضين لها اختلافاً جذرياً، ليس فقط للأسباب الإنسانية أو الإحصائيات المشار إليها، بل يتحدد في النظرة إلى الإنسان. فعالم المتشبثين بالعقوبة هو عالم يؤمن بالانتقام والثأر حتى لو ارتدى أفراده البدلات الأنيقة وصاغ أفكاره بلغة مهذبة فهو يعود إلى إرث بدائي يؤمن أنّ "العين بالعين والسنّ بالسن". أما الفريق الثاني فيؤمن بالعقاب كوسيلة ردع وليس انتقاماً، وأنّ السجون مكان للإصلاح وليس للعقاب فقط. وبين هذين العالمين يبقى الضحايا من الأقليات والفقراء، الذين لا يملكون المال لتعيين أفضل المحامين أو أيّ محامين أحياناً، علماً أنّ المطلوب من أيّ نظام ديمقراطي هو إنصاف هؤلاء بالذات وهو ما تفشل فيه الولايات المتحدة فشلاً ذريعاً.