كانت في الرابعة عشرة من عمرها حين خرجت من فلسطين. لذلك، لم تنس تلك السنوات التي عاشتها في بلدها، حيث ولدت وكبرت مع عائلتها في عكا، وما زالت ذاكرتها حتى اللحظة تحفظ معالم سوق عكا والناس وعادات المدينة. حتى اليوم، ما زالت تذكر محل "الفوال"، الذي كان قريباً من محل والدها، الذي كان يبيع الأحذية. كان ذلك الفوال يحضّر لها صحن الفول حين تذهب إلى محل والدها عند الظهيرة في وقت الغداء، فيما يذهب أبوها إلى البيت ليتناول الغداء ويرتاح قليلاً. "كلّ شيء في عكا كان جميلاً، إلى أن اعتدى الصهاينة على المدن والقرى الفلسطينية، وهجّروا أهلها".
تحتفظ فاطمة خضر حجازي بذكريات جميلة من طفولتها. تقول لـ "العربي الجديد": "كنا ست بنات في البيت، وكانت أمي قد أنجبت مولوداً ذكراً. وفي اليوم الذي قررنا فيه الاحتفال بشقيقي الذي بلغ أربعين يوماً في الحمام العربي، والرقص على أنغام بعض الأغنيات والعزف على الآلات كما هي عادات النساء، دخلت إلى غرفة أخي فوجدته ميتاً. في ذلك الوقت، كنت في الرابعة عشرة من عمري، وكان يوماً عصيباً. في الفترة نفسها، جاء أهل حيفا إلى عكا، وقد فروا من مدينتهم عن طريق البحر". تذكر أنها رأت الخوف على وجوه الفارين، خصوصاً النساء منهم. "الصهاينة هجموا على بيوتنا وقتلونا ونهبوا بلدتنا"، هكذا سمعتهم يقولون.
تضيف الحاجة فاطمة: "بعدما علم أبي بما حلّ في حيفا، قال لعمي إنه يريد الهرب إلى لبنان، فهربنا جميعاً ومكثنا في منطقة بنت جبيل الجنوبية، واستأجرنا منزلاً، وبقينا هناك مدة شهر. لم نستطع حمل أغراضنا، باستثناء بعض الملابس الخفيفة. فقررنا ترك بنت جبيل والرحيل، لنتوجه إلى منطقة شحيم في إقليم الخروب. في المكان الجديد، كانت الحياة مريحة وجميلة. مكثنا في شحيم مدة 8 سنوات، وكان أبي لا يعمل حينها. تعلمت التطريز بمساعدة فتاة كانت تكبرني سناً، وصرت أعمل في التطريز وقطاف الزيتون وجمع الحطب والخَبز. شقيقتي سافرت إلى السعودية، وعملت في مجال الخياطة أيضاً. نحن، الاثنتين، كنا نعيل البيت، فيما التحقت شقيقاتي الأخريات بالمدرسة".
لم تبق العائلة في بلدة شحيم. "كان عمي يقطن في منطقة طرابلس في شمال لبنان. قررنا الانتقال إلى هناك للعيش قربه وقرب عائلته"، (لافتة إلى أن أسرته ما زالت تعيش هناك حتى اليوم). "في المنطقة الجديدة، عرفت شقيقتي بوظيفة شاغرة في السعودية، فتقدمت بطلب وكان لها ما أرادت، خصوصاً أنها تجيد التطريز. حين سافرت إلى هناك، أخبرتها برغبتي في الالتحاق بها، فقالت لي بضرورة تعلم الخياطة. وخلال شهر، تعلمت الخياطة، ولحقت بها وصرنا نؤمن مصاريف أهلنا في لبنان. مكثت في السعودية أربع سنوات ونصف السنة. وحين عدت إلى لبنان، تعرفت إلى زوجي، الذي اشترط علي ترك العمل بعد الزواج".
كان زوجها يعمل في خياطة وتركيب الستائر. "حين تزوجنا، سكنا في الدكوانة، إحدى مناطق شرق بيروت، ثم انتقلنا إلى غربها. وفي وقت لاحق، توجهنا إلى منطقة صيدا في جنوب لبنان، حيث نسكن حالياً. وفي المكان الجديد، تمكنا من شراء بيت على اسم ابنتي التي استطاعت الاقتراض من المصرف". تضيف: "منذ أكثر من سنة، توفي زوجي. وفي الوقت الحالي، أعيش مع ابنتي. ولم أعد أخرج من البيت منذ سنتين تقريباً".
تقول الحاجة فاطمة: "تنقلنا كثيراً قبل أن نستقر. فقدنا الكثير من أحبائنا، ولم نعد حتى اللحظة إلى فلسطين". وتسأل عن تلك الدماء التي سقطت فداءً للوطن، ومن دون أن يحصد الفلسطينيون شيئاً من حقوقهم حتى اليوم. مرت سنوات طويلة، وما زال الفلسطينيون يعيشون حياة الترحال والسفر.
تتمنى الحاجة فاطمة العودة إلى فلسطين. تقول: "عكا أجمل المدن. يكفيها سوقها والمحال التجارية التي كانت سائدة". تقول: "في فلسطين كنت أتعلم في المدرسة. وبعدما خرجنا منها، اضطررت إلى العمل فتركت المدرسة. كان ذلك خياري من أجل شقيقاتي. ليتني أعود إلى فلسطين".