يوميّات الحرب في غزّة (14)

27 نوفمبر 2023
فلسطينيون في خان يونس يتوافدون إلى الأسواق في اليوم الثاني من الهدنة (25/11/2023/الأناضول)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(23 نوفمبر)
اليوم الثامن والأربعون للحرب. الرقم المشؤوم 48، الذي لا يمكن أن يعني لنا إلا شيئاً واحداً ها نحن نعيشه، بمرارة وقسوة. الرقم الذي يجلب معه ما نعانيه. تغريبتُنا التي لا تنتهي، ورحلتنا التي لا تجد برّاً حتى ترسو عليه. الحكاية التي لم تنته، وتتواصل يوماً بعد آخر ومن دون توقّف، الدماء التي تنزّ بسخونة وتخضّب الأرض التي نسير عليها. اليوم الثامن والأربعون للحرب، ثم سنصل إلى اليوم السابع والستين للحرب، وسنصل إلى اليوم المائة ربما. ومع ذلك، سنواصل التفكير في كل تلك الأيام التي سبقت وقوع المآسي كلها، ونفكّر في اللحظات التي نمحوها ونمحو ذكراها ونمحو آثارها وتبعاتها ونزيلها. 
ذهبت مساء أمس إلى المستشفى الأوروبي (في خانيونس) لتفقّد وسام والآخرين. جلستُ في الغرفة. كنّا ثمانية أشخاص، وبالكاد يستطيع الواحد منّا جسدَه. كان ياسر متعباً من النوم على الكرسي، كما أن ما أحضرته لينام عليه حمي لم يكن مريحاً. كان التّعب بادياً عليهم جميعاً. وحدها الحجّة كانت مرتاحة، لأنها لأول مرّة لم تسمع قصفاً في الليل، ولأول مرّة لا تشعر بالخوف. كانت تنام على فرشة على الأرض، وتنظر إلى السقف وهي تسأل عن هناء والأولاد. سرتُ، أنا وياسر، في خانيونس البلد بجوار القلعة، ثم سرنا باتجاه الشارع الذي يقع فيه مستشفى ناصر. كان الشارع الأكثر اكتظاظاً، وربما هو الآن الأكثر اكتظاظا في فلسطين. تنتشر بعض مراكز الإيواء على جانبيه، وتحوّل الشارع إلى سوق كبير وضخم. يتجمّع في مستشفى ناصر الصحافيون في خيام، وينقلون الأخبار. الكلّ ترك غزّة لعتمة القتل والذبح والتدمير. يُهندم المراسلون ملابسهم ويجلون أصواتهم، قبل أن تأخذهم الأقمار الصناعية للبث المباشر. الوجوه نفسها التي كنتُ أراها في مستشفى الشفاء موجودة الآن هنا. وما كانوا يقولونه هناك يقولونه الآن. فقط، بدل الزيتون يقولون عبسان وبدل الرمال القرارة وهكذا. نفسُه ملل الأخبار التي لا تريد أن تسمعها، لأنها جزءٌ منك، ولأنها لا تعطي أيّ أمل، ولا تحكي عن الناس الحقيقيين. خيام النازحين في المستشفى تعيد الصور نفسها عن خيامهم في الشفاء والإندونيسي. توجعك الذاكرة وأنت تفكّر أن ثمّة واقعا يلاحقك في كل مكان، وأن ثمّة ألما لا يبرح ينكأ جراحك، وأنّك مجبرٌ على أن تكون جزءاً من كل شيء في كل وقت. قلتُ لياسر: أنت تعرف الآن كل مشافي غزّة من الشفاء إلى النصر إلى الإندونيسي إلى الهلال إلى ناصر.

لا تهمّ الناس شروط الهدنة، ما يهمها أنهم سيتمتّعون بأربعة أيام بلا قتل، وبلا انتظار المجهول الذي لا يعلمون

في الشارع السوق وباعة المشاوي وباعة الفستق والحلويات والكسترد والفلافل الذي يتم قليه على نار يتم إيقادها على الحطب، فترى اللهب الضخم يحيط بالصاج من كل الجهات، وتظنّه سيحرق كل شيء. والملفت أن كل صاج فلافل يحيط به عشرات الزبائن ينتظر كلٌّ منهم دوره. 
لم أتمكّن من الوصول إلى بيت مأمون بعد أن حلّ الليل. تهتُ قليلاً، قبل أن أتصل به وأقابله في شارع مجاور. كانت المدينة وخيمها ملاذا للآلاف، وكنت كلما سألتُ شخصاً عن الطريق، يجيب إنه غريب ولا يعرف المكان. كلّنا غرباء في لحظة غريبة. حتى الإحساس بالمكان خانني، وتعذّر علي أن أستعير من ذاكرتي مشاهد مرور كثيرين إلى بيت مأمون.
جلسنا حول موقد النار الذي أشعله أخو مأمون في باحة البيت الأمامية تحت شجرة نخيل سامقة. يُستخدم الموقد كفرن صغير، حيث وُضعت طبقة ثانية له فوق بلاطة باطون، يتم إيقاد النار تحتها من فتحة جانبية، ويتم وضع أقراص الخبز فوق البلاطة. انتبهوا، قبل قليل، من خبز الأقراص، وظلت النار متّقدة تشيع الدفء، وتدعو من يريد الألفة إلى الجلوس حولها. جلسنا نتبادل الحديث والنقاش، بعد أن أحضر مطيع الطعام الذي سنتناوله مع الخبز المحمّص على النار. الجبن والزيت والزعتر والبندورة والخيار، وبالطبع الشاي الذي أخذ يغلي فوق النار أمامنا.  
الجلسات العائلية حول كانون النار من تلك اللحظات الأثيرة في الذاكرة، ومن الاستعادات المحبّبة في لحظات البرد. استذكار الدفء والنار والحطب وغلاية الشاي والخبز المحمّص والأحاديث المتناثرة مثل الشرار المتطاير من أغصان الليمون الناشفة، وهي تطقطق تحت وهج النار. لحظات الفرح المفقودة التي كانت تعني عالماً كاملاً رغم قسوة الحياة في الطفولة، ورغم عدم توفّر كل الأساسيات، لكنها لحظات تجعل الماضي جميلاً، رغم ما فيه. وعادةً ما يبدو الماضي أكثر جمالاً وبهاءً، لأنه لم يعد موجوداً بالأساس. ولقسوة الواقع، يتم استعادة أي شيء من أجل المقارنة غير العادلة أيضاً. نجلس، الآن، حول الموقد، نستمتع بالنار وبالحديث وبالألفة، وننتظر الغد الذي سننعُم فيه بالهدنة المرتقبة.
كان الحديث عن الهدنة أكثر ما يشغل بال الجميع. في الصباح، ستدخل الهدنة الإنسانية حيز التنفيذ. سيتم إطلاق سراح خمسين من الإسرائيليين الموجودين في غزّة. لا تهمّ الناس شروط الهدنة، ما يهمها أنهم سيتمتّعون بأربعة أيام بلا قتل، وبلا انتظار المجهول الذي لا يعلمون. تواصل الطائرات الزّنانة بصخب تحليقها فوقنا، ويكاد صوتُها يعلو في مرّاتٍ على أصواتنا ونحن نتبادل كل ما نعرف عن الهدوء الذي ننتظر. 
نِمنا ونحن نفكّر في الهدنة التي سنصحو وقد عمّت الكون حولنا. ثم صحونا والهدنة تم تأجيلها. نزل الخبر غريباً ومستبعداً، لكنه كان حقيقياً. تمكّنت من قراءة الأخبار، إذ إن "حزمة" الإنترنت الخاصة بهاتفي عملت بضع ساعات، وأنا نائم في الليل، وتم تحميل أخبار المجموعات على واتساب. معيقاتٌ لوجستيةٌ وخلافاتٌ في اللحظات الأخيرة أعاقت تنفيذ الهدنة. "بِدنا هدنة" قال أحدهم، وهو يقول "نرتاح قليلاً". يصعُب الحكم على الأشياء في السياقات غير الطبيعية، لأن أي حكم محكوم بالسياق الذي يُنتجه، وقد يأخذ السياق غير الطبيعي أحكاماً غير سليمة بالضرورة.

الصورة
امرأتان
فلسطينيتان تعدّان الخبز وسط وسط أنقاض المباني المدمّرة في منطقة خزاعة على مشارف خانيونس (25/11/2023 فرانس برس)

لا هدنة اليوم. سيواصل الجيش قصفه وتدميره وضربه مناطق قطاع غزّة. ستستمرّ الحرب يوماً آخر، قبل أن تتوقّف يوماً أو أربعة، ليس مهمّاً. المهم أن تتوقف ولو نصف ساعة. لن نتمكّن من التقاط أنفاسنا بصورة مناسبة، لكننا سنمتلك بعض الوقت، من أجل تفقد حالنا، ومحاولة إيجاد الحلول اللوجستية لبعض الأزمات التي نواجهها، ونحن نحاول أن نكون ما نحن عليه، ولو مؤقّتاً، من أجل أن نحافظ على حياتنا. ستكون الهدنة لمن انتقل من بيته ويعيش في خيمة فرصةً من أجل ترتيب الخيمة بشكل أفضل، ومن أجل تأمين الحاجيات الأساسية حتى يصمد بصورة أكثر أمناً. أشياء كثيرة مفقودة يجب البحث عنها. بالطبع، لا بحث عن الضحايا، ولا عن الذين ما زالوا تحت الركام، ولا عن الأحلام التي ما زالت تنزّ بقعاً داكنة على المخدّات المتروكة تحت الحجارة. لا وقت لشيء آخر إلا مواصلة البحث عن الحياة وعن استمرار البقاء. سيظلّ وقتٌ آخر للبكاء وللحزن وللملمة الجراح وللنظرة الأخيرة على القبر الذي يضم رفات الأحبّة. لا وقت آخر لأي شيءٍ إلا التفكير في المستقبل الذي يجب أن يأتي، وفي الغد الذي لا بدّ أن يُشرق. أما ما يجب فسيجب في الوقت الواجب. الآن، لا وقت آخر إلا التفكير في الشيء المقبل بعد ذلك، سيكون هناك وقت لكل شيءٍ غير ذلك.
في الليل، اشتدّ القصف المدفعي على منطقة شرق خانيونس. وحيث إنني لم أسمع أي قصف ليلة أمس، فإنني في تلك الليلة سمعت الضربات ضربةً ضربةً. وفي مرّاتٍ، كنتُ أحسّ بأنها قريبة. لا أخبار حتى نعرف مواضع القصف، ولكن رسالة نصّية وصلت إلى جوّالي تقول إن القصف في منطقة شرق خانيونس أو ما يعرف بـ"الشرقية" بدا مدفعياً. قلت لمأمون إن الجيش يريد أن يحقّق مزيدا من التقدّم، قبل أن تدخل الهدنة حيّز التنفيذ. هذا يعني أن شمال غزّة، وخصوصا مخيّم جباليا، سيتعرّضان لمزيدٍ من الضربات العنيفة الليلة، من أجل أن تتقدّم الدبّابات في كل المحاور التي تسيطر عليها، ومن أجل دفع مزيد من السكان إلى ترك الشمال والتوجّه جنوباً. حاولتُ الاتّصال بوالدي فلم أنجح. كذلك حاولتُ الاتصال بأختي أسماء ولم أنجح. نمنا والقلق ينهشنا لأننا لا نستطيع معرفة ما يجري، ولا ندرك ما يدور حولنا. 
بعد ذلك، سنعرف أن الاستهدافات طاولت مناطق مختلفة شرق خانيونس. القلق الذي ينهش الناس أن مهمة الجيش التالية بعد الانتهاء من جباليا وغزّة ستكون مدينة خانيونس ومخيّمها، واللذان باتا الأكثر اكتظاظاً في العالم، وستكون تكاليف أي معركة دخول برّي لها مكلفة، وسيسقط فيها آلاف الضحايا. 
لم نعد نسأل عن عدد الشهداء ولم نعد نفكّر فيمن سقط ولا فيمن ذهب، كما أن عدد الشهداء لم يعُد أحدٌ يحفظه. أظنّني سمعتُ قبل يوم رقم الأربعة عشر ألفاً. هذا لا يشمل عدد المفقودين أو الذين تحت الركام، فهم ما زالوا في عداد الغيب الذي لا نعرف. كما أن عدد الجرحى لم يعُد في بال أحد. آخر مرّة تابعت فيه عدد الجرحى كانوا ثلاثين ألفاً، وهذا ربما كان قبل أيام معدودة، ولا بد أنه وصل الآن إلى الأربعين ألفاً. ثمّة مذابح نعرف عنها وتعرف عنها الأخبار بعد أيام من وقوعها. مثلاً، لم نعرف عن المذبحة بحقّ عائلة شحيبر في حي الصبرة، إلا بعد أيام من وقوعها. هناك عشرات المذابح الأخرى التي تظهر حقيقتها بعد أيام، كما أن بعضها لا يظهر مطلقاً إلا بعد أن تنتهي الحرب بشكل كامل. مات مئاتٌ تحت الركام، ولا أحد يبحث تحت الركام. الكل يبحث عن النجاة، لأن الدبابة تلاحق الحياة في عروقنا.

ناسٌ كثيرون يخطفهم "المعبر" الجديد، وكثيرون يفترقون عن عوائلهم بسبب الزحمة، فيعتقدون أنه تم اعتقالهم

اتصلت، في الصباح، بعيشة للاطمئنان. بدت قلقة، ولكنها مرتاحة على الأقل لأن أطفالها بخير. لا أحد يرتاح حين يخرُج من بيته. يقول المثل الشعبي "اللّي بطلع من داره بنقلّ مقداره"، وهو مثلٌ يعكس الكثير من الفهم الفلسطيني للبيت وللوطن. ولكن ثمّة ضرورات تفرض علينا أشياء كثيرة لا نحب. اتّصلت أختي أسماء بي. كنت أظن أنها تركت بيتها في منطقة الفالوجا في المخيم، وانتقلت للعيش في بلدة النزلة، كما أخبرني شامخ زوجها ما ينويان فعله، لكنهم بقوا في البيت. قالت إن شامخ يرفض ترك البيت، ويقول إنه لا يستطيع تدبّر أمره خارج بيته، وإنه سيضطر لسؤال الناس لمساعدته، وهو ما لا يريده. سأعرف من عيشة أن الجيش لم يعتقل سلفيها محمد ومشعل كما أشيع قبل يومين، وأنهما في دير البلح مع بقية العائلة. ناسٌ كثيرون يخطفهم "المعبر" الجديد، وكثيرون يفترقون عن عوائلهم بسبب الزحمة، فيعتقدون أنه تم اعتقالهم، لأن مسافة الدقيقة تصير ساعاتٍ في المعبر وفي النجاة. يكتشفون بعد يوم أو أقل أنهم أحياء ولم يتم اعتقالهم. كما أن صعوبة التواصل عبر الهاتف لعدم وجود اتّصالات أيضاً تجعل تبادل معلومات السلامة والنجاة صعبة، فيتم افتراض أن الأسوأ قد وقع. 
انطلقتُ إلى رفح لحضور الاجتماع مع لجنة المساعدات والإغاثة في مقرّ الهلال الأحمر في منطقة خربة العدس في المدينة، وهي خربة مجاورة لها. وقبل أن ننعطف في الشارع يساراً هوت الطائرات على بيتٍ في الطريق. توقّفنا قليلاً. ضحكت وقلت لياسر: هذا ترحيبٌ بنا. ... منذ يومين، لم أر الناس تركض وتصرخ قرب موقع يتم قصفه، فمثل هذه المشاهد التي كانت جزءاً من روتين حياتنا في الشمال لم نرها هنا كثيراً. وصلنا إلى الاجتماع في المبنى المحاط بالأراضي المزروعة. كنتُ أنظر من النافذة إلى الأشجار تتمايل أمام نسيم الصباح، وأفكر أن في الحياة دائماً ما يسرّ الناظرين. 

 (24 نوفمبر)
في الجنوب، عليّ أن أعيش مثل الآخرين حياة النازحين. قرّرتُ أن أمشي الطريق الواصل من ميدان العودة في رفح إلى حي تل السلطان، حيث مدرسة مكّة التي نزح إليها إبراهيم. في الحقيقة، مشيتُ في البداية من خربة العدس إلى وسط البلد عند ميدان العودة. وكانت تلك مسافة طويلة، حيث اعتذرت من الدكتور محمد زيارة الذي أراد أن يصطحبني حيث أريد، وقلت له سأبقى وقتا أطول في مبنى الهلال الأحمر من أجل الكتابة، بسبب توفر الكهرباء والإنترنت. كل ما كنت أريده طاولة وكرسي أجلس عليه بشكل مريح فمنذ تركت بيت الصحافة، بعد أن دخلت الدبّابات حيّ الرمال، لم أجلس على كرسي من أجل أن أكتب. طول الوقت، أجلس وأضع جهاز اللابتوب على ساقيّ في وضع غير صحّي ومؤلم لظهري ولكتفي. كانت هذه فرصة من أجل الجلوس ساعتين، والاستفادة من كل ما يوفر المكان من امتيازات. لم أكن أدرك أن عليّ أن أسير 45 دقيقة من خربة العدس، حيث مقرّ الهلال حتى وسط البلد. وطوال كل تلك المسافة، كان على أن أتقاسم حمل حقيبة اللابتوب المليئة أيضاً بزجاجات الماء مع ياسر، هو يحملها خمس دقائق، وأنا أحمل خمساً أخرى. قطعنا المسافة من خربة العدس إلى ميدان العودة منهكين. 
أخذ الميدان اسمه من المسجد الكبير الذي يقع فيه. وفكرة مسجد العودة ملفتة، فهي مساجد أقيمت في المخيمات، وكان اسمها يشير إلى العودة إلى البلاد وكان مسجد العودة المسجد الكبير والأول في المخيم. ومع الوقت، بات يضاف إلى كلمة العودة عبارة "إلى الله" ليصبح "العودة إلى الله".

الصورة
غزة الزهراء
مشهد من الجو يظهر الأضرار الجسيمة للمباني في منطقة الزهراء في غزّة بسبب الهجمات الإسرائيلية (25/11/2023/الأناضول)

تناولتُ في وسط البلد مع ياسر وجبة تكفي لأن تكون غذاءنا وعشاءنا لبقية النهار. يبيع محلّ المشاوي الكباب فقط، وعليك تدبر أمر الخبز. سألت أحد المارّة الذي يحمل خبزاً من أين اشتراه قال إن هناك فتى يبيع الخبز الصاج قرب باب المدرسة على مسافة مئتي متر من مسجد العودة. اشتريتُ وقية كباب، وسرنا، أنا وياسر، نبحث عن بائع الخبز. ضحكت وقلت لياسر: إذا لم نجده فسنأكل الكباب بدون خبز "حاف". هزّ رأسه موافقاً. اشتريْنا الأرغفة الخمسة، ووقفنا في زاوية عند مدخل المدرسة، وبدأنا نلف أصابع الكباب بالخبز الرقيق على شكل لفائف ونأكل. ثم اشتريتُ حبات كلمنتينا وأكلنا، وكل ما أقصد أن أستخدم قشرها في تنظيف أيدينا. 
مشينا في رفح ساعة أيضاً. ننتقل من مكان إلى آخر، نكتشف المدينة الصغيرة الجنوبية التي صارت مركزاً فيه مئات آلاف من المواطنين التائهين الباحثين عن النجاة، بعد أن التهمت الحرب استقرارهم، وأخذت كثيرين ممّن يحبّون. كانت رفح مجرّد قرية صغيرة قبل النكبة، وظلت كذلك حتى الستينيات، حيث بدأت تتوسّع، خصوصا مع ظهور مخيّم اللاجئين بجوارها وتوسّعه. بعد قيام السلطة تم إعلانها محافظة. ازدهرت رفح بعد حصار غزّة وظهور الأنفاق التجارية تحت الحدود التي تربطها برفح المصرية، إذ ظهرت حالات ثراء كثيرة، وسيطر على اقتصادها مجموعة من "المليونيرات" الجدد الذين كانوا لا يجدون ما يأكلون أو يلبسون، وباتوا، بفعل تجارة الأنفاق، يتنفسون دولارات. ومع ذلك، وبعد تنظيم التجارة بين مصر وغزّة في السنوات الأخيرة وتراجع تجارة الأنفاق، تراجعت مكانة المدينة بشكل كبير، بعد أن كانت تشبه مناطق التجارة الحرّة في الدول. اختفى كل شيء، وعادت المدينة إلى سابق عهدها، خصوصا رغم وجود المعبر الحدودي الذي يربط غزّة بالعالم الخارجي. 
إلى جانب ذلك، رفح آخر مدن آسيا من جهة أفريقيا، وشوارعها أول شوارع في آسيا، أو آخر شوارع فيها، والطريق البرّي الوحيد لأفريقيا يبدأ منها، فهي بوّابة دخول وبوابة خروج. من فترةٍ إلى أخرى، كنت أرمي بتلك المعلومات لياسر الذي قال فجأة إنه ربما الوحيد من إخوته الذي زار رفح. حوارٌ يدور بيننا في فترات مختلفة، وهو يحاول أن يعزّي نفسه أنه على الأقل يقوم بشيء لم يقم به الآخرون من إخوته. سِرنا باتجاه تل السلطان غرْباً. حين مررْنا قبالة الشابورة، تذكرت أن أخي محمد يقيم مع زوجته سحر في منزل عائلة والدها في الشابورة. اتصلت به، وبعد خمس دقائق كان يخرُج من الشارع الذي يصل الشابورة بالشارع العام. سِرنا سوية نحو تل السلطان. كان وجودُه فرصة حين نرتاح قليلاً من حمل الحقيبة، ونوزّع وقت حملها علينا نحن الثلاثة. مشيْنا أكثر من ساعة ونصف الساعة، قبل أن نصل. كان الليل قد ابتلع المدينة، وعمّ الظلام بشكل كامل. أخبرني محمّد أن الهدنة ستحل يوم غدٍ كما بات مؤكّداً، وأن هذا يعني أن الوضع سيكون أفضل. وصلنا إلى الحي السعودي، حيث المدرسة التي يقيم فيها أخي إبراهيم. والطريف أن أحياء كثيرة في رفح تحمل أسماء دول مختلفة، ساهمت في بناء هذه الأحياء، كما أن بعض الأحياء في مدن أخرى تحمل أسماء دول أو أمراء ساهموا في بنائها. في رفح حي البرازيل وحي كندا والحي السعودي. 
نجح إبراهيم فور وصوله في إيجاد مساحة صغيرة في المدرسة، تسعة أمتار مربعة. لم يبن أحد خيمة فيها، ونصب خيمته الخاصة، بعد أن اشترى الخشب والقماش والبطّانيات. لم يجد ما ينام عليه، هو وزوجته وطفلاه وحماته وبنت وابن حماته الذي يعاني من شلل أطفال. اشترى "حصيرة" مستعملة، فرشها على الأرض، وصاروا ينامون فوقها بدون لحف أو بطّانيات. "هذا أفضل من النوم في الشارع". لدى جاره في الخيمة المجاورة مكان أوسع يسهر مع إبراهيم، ويدردشان، ويسمح لهم باستعمال النار التي يوقدها، ويوفّر لهم بعض الآنية إذا احتاجوا، لكن هذا يكلّف إبراهيم سجائر كثيرة في اليوم مقابل ذلك كله.

تنصبُ الناس خياماً في أي مكانٍ تعتقد أنه فارغ، وتقيم حيث تعتقد أنه آمن، وطبيعة البشر أنها تأنس، حيث يوجد الآخرون

سِرنا من مدرسة مكّة في الحي السعودي باتجاه مخازن وكالة الغوث إلى الشمال قليلاً. لا يعرف إبراهيم المكان. لذا مشينا أكثر مما يجب لو أنه يعرف الطريق. وصلنا منهكين. في المجمل، يمكن أن أقول إنني مشيتُ اليوم أكثر من خمس ساعات، منذ تركت اجتماعي في خربة العدس. صارت مخازن وكالة الغوث مراكز إيواء ضخمة، حيث ينصب عشراتٌ في كل مخزن خياماً خاصة بهم، ويقيمون فيها. تفصل هذه الخيام ممرّات وأزقّة مختلفة، حيث يشكل كل "بركس" منها مخيّماً خاصاً يأخذ اسمَه من رقم "البركس" أو المخزن في قائمة المخازن الكثيرة التي تنتشر في تلك المنطقة الحدودية. وعن تلك المخازن، ومع وصول مزيد من النازحين، ظهرت خيام وتجمّعات سكنية جديدة. جرى نصب مئات الخيام حول تلك البركسات عشوائيا. حالة تشبه ظهور المخيّمات ونشوءها أول النكبة. قلتُ لمحمّد: أن تتحوّل هذه المخيمات إلى مخيمات دائمة، وتتحوّل الخيام إلى بيوت، كابوس لا يمكن التفكير فيه، ولا أحد يريد له أن يحدُث. ثمّة شارع ضخم يفصل الخيام الخارجية عن البركسات هو الشارع الرئيس الآن في المنطقة، تنتشر على جانبيه أكشاك البيع المختلفة، ومحلّات الفلافل والكسترد. أوقدَت سيدة عجوز النار ووضعت مقلاة وبدأت تصنع "العوّامة" (لقمة القاضي) وما بدا أنه مغامرة صغيرة صار تجارة رائجة، إذ لا يمكن للمرء إلا أن ينتظر وقتاً طويلاً حتى يحالفه الحظ ويشتري من عوّامتها الشهية.
توجّهت إلى الخيمة التي يقيم فيها فرج مع زوجته وأولاده. كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها زوجته، بعد أن فقدت كل عائلتها في قصفٍ استهدف منزلهم في مخيم البريج. جلسنا نتحدّث عن الحرب وأهوالها. اتّصلتُ بهناء التي حاولت مرّات كثيرة الاتصال بزوجة فرج لتعزيتها ولم تتمكن. تحدثّت معها عبر جوّالي. جاء بعض الأصدقاء ممين يقيمون في البركس نفسه للسلام والتحية، ثم جاءت "أم علي" قريبتي، وجلسنا ساعة نتحدّث في قضايا مختلفة. تبحث الناس عن أي أملٍ يقول لها إن هذا الكابوس سينتهي. قد تكون فكرة الهدنة خطوةً في هذا الاتجاه، لكن أحدا لا يمكن له أن يقول ذلك، فما بالك أن يجزم به؟ عرفتُ من فرج أخباراً كثيرة عن النازحين في المنطقة، وعرفت الكثير عن الأصدقاء الذين وجدوا طريقهم إلى المنطقة. 
انطلقنا نحو المنطقة التي يقيم فيها جمعة، صديقي وقريبي في الوقت نفسه، فنحن الاثنان من عائلة واحدة، كما أنه ابن خالة والدتي. حصل جمعة على قطعة أرض بمساحة ستمائة متر من صديق له محاطة بسور، ونصب أربع خيام داخلها، وجهّز كل شيء فيها، وعمل حمّاماً خاصاً، من أجل أن تكون مهيأة لحياة متواصلة، ومريحة بالقدر الممكن. بشّ جمعة حين دخلنا، وطلب من أحد أبنائه إيقاد النار من أجل أن نشرب شاياً على النار. جلسنا في خيمةٍ على الجهة الغربية من المنطقة، وهي التي سأنام فيها بعد ذلك، وبدأنا سهرة طويلة جداً. كنّا أكثر من عشرة أشخاص، وكان الضحك والمزح والغمز واللمز سيسحباننا عميقاً إلى عالمٍ بعيدٍ عما نعيش فيه.

الصورة
شابان
شابان في رفح جنوبي قطاع غزة يحملان أسطوانتي غاز استعدادا لملئهما (25/11/2023 فرانس برس)

تُحيط بمنطقة جمعة أيضاً خيام مختلفة. تنصبُ الناس خياماً في أي مكانٍ تعتقد أنه فارغ، وتقيم حيث تعتقد أنه آمن، وطبيعة البشر أنها تأنس، حيث يوجد الآخرون. لذا، مع أول وصول لأول النازحين إلى منطقة بركسات الوكالة كما يعرفها الناس، وتداول المعلومة من فرد إلى آخر، صارت منطقة جذب للنازحين من شمال غزّة، خصوصا من مخيم وبلدة جباليا. يقطُن الآن في المنطقة قرابة اثني عشر ألف نازح، تقدّم وكالة الغوث (أونروا) الخدمات لهم، خصوصا معونات الإطعام من طحين ومعلبّات وبعض البقوليات. لكن المشكلة الأساسية تظل عدم وجود غاز للطهي. وبالتالي، أفضل ما يمكن أن يعمله الرجل أن يبحث عن حطب، حتى يوقِد النار التي سيتم الطهي عليها وغلي الشاي. طبعاً، لا قهوة بالمطلق في المكان، ليس لأن سعرها تضاعف عشرات المرّات، ولكن لأنها غير موجودة من الأساس. الشاي يسدّ، لذلك شربناه ثلاث مرّات خلال سهرتنا تلك. شاي النار لا يعوّض. تمشّيت على الرمل الأصفر البارد، وأنا أفكّر ماذا لو لم تنته الحرب؟ هل سنظلّ نازحين طوال العمر؟ الفكرة مرعبة، وتخيّل الأمر مخيف. 
نمنا، أنا وياسر ومحمد وإبراهيم، في الخيمة، لنصحو مع الصباح. اليوم هدنة. دخلت الهدنة حيز التنفيذ. الأخبار الوافدة من مخيم جباليا مقلقة، فالجيش نفّذ أحزمة نارية طوال الليل في مناطق مختلفة من المخيم، من تلّ الزعتر شرقاً إلى الفالوجا غرباً. حاولت أن أتصل بوالدي. ولكن لا يمكن الاتصال بشخصٍ في الشمال. سألتُ هناء أن تحاول أن تتّصل. كما اتّصلت بأختي أسماء متمنّياً أن تكون قد غادرت بيتها في الفالوجا. أمضينا ساعة ونحن نحاول، كل من طرفه، أنا ومحمد وإبراهيم، وهناك من رام الله. 
حاول بعض الناس في الصباح العودة إلى الشمال، لكن قوات الاحتلال أطلقت عليهم النار ومنعتهم من المرور. المرور مسموحٌ فقط وفق الهدنة من الشمال إلى الجنوب. يتمنّى كثيرون لو أنهم يعودون. الحياة قاسيةٌ هنا، ولا تتوفّر مقوّمات الحياة الكريمة، فعلى النازح أن يقوم بكل شيء بنفسه، وما يتلقّاه من مساعدات قليل، ولا يكفي حتى يواصل البقاء. شاهدتُ، بأم عيني، طابور الانتظار على الحمّام، رجال ونساء، بطول 50 متراً، ويحتاج الواقف ساعات حتى يصل إليه الدور. شممت الروائح الكريهة في الممرّات بين الخيام والبركسات والماء الآسن والوحل. الماء عملة نادرة، وهناك من لا يستطيع أن يستحمّ أياما طويلة. لذلك، يتمنّى كثيرون لو أنهم لم يغادروا. بدا ياسر ابني قلقاً، وهو يسألني ما إذا كنا فعلاً سنُغادر إلى القاهرة قريباً. قلتُ له: لم نخرُج إلا من أجل ذلك، لأن لديّ عملا في الوزارة، كما أن والدته اشتاقت له. ... سأل عن جدّه وجدّته لأمّه، قلت: هما في المستشفى مع وسام ووداد، وهما بذلك في أمان. قال: "ما بهمّهم بفوتوا المستشفيات" (يقصد الجيش). قلت: في نهاية المطاف، ماذا يمكن أن نفعل أكثر من ذلك. لا شيء. وكان هذا تذكيراً بأن نزورهم اليوم، فنحن لم نزرهم يوم أمس.
شربنا الشاي الساخن وتحدّثنا. كان كثيرون من أبناء العائلة، وكان الكثير من الحديث ومن الذكريات ومن القصص. ثم سرتُ برفقة يوسف، ابن جمعة، نحو الشارع الذي سأجد فيه سيّارة تقلني إلى وسط البلد لآخذ مواصلة أخرى من هناك، وأتوجّه إلى المستشفى الأوروبي. 
لتوّي تذكّرت أن يوم أمس كان عيد ميلاد عيشة. أرسلت إليها رسالة على "الجوّال"، أتمنّى أوقاتاً أجمل، وعمراً أبهى، وحرباً لا تعود.

قضايا وناس
التحديثات الحية
المساهمون