ورود الجزائر... استعادة الشغف بالذوق الإنساني الراقي

18 مارس 2023
تملأ الورود مجدداً بيوت الجزائر (فايز نور الدين/ فرانس برس)
+ الخط -

عادت في الفترة الأخيرة نشاطات زراعة وإنتاج الورود في الجزائر، وباتت موضع اهتمام لمستثمرين شبان كثيرين وجدوا فيها مجالاً جيداً لتحقيق أرباح مادية، خاصة مع ارتفاع طلبات المؤسسات الرسمية التي تحرص على دمج المساحات الخضراء في مباني المشاريع السكنية والمرافق العمومية، وكذلك مع انتشار ثقافة تزيين الحدائق المنزلية بكل أنواع الورود وتقديمها في المناسبات والأعياد.
في سبعينيات القرن العشرين كانت الجزائر تحتل مراتب متقدمة على صعيد إنتاج وتصدير الورود، ثم تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة، وباتت اليوم غير قادرة على توفير كميات اكتفائها الذاتي من هذه المادة الحيوية التي دخلت في كثير من صناعات العطور والزيوت الأساسية، وأدخلتها دول في برامج تعزيز أسواقها الخارجية وتعزيزها في سبيل إنعاش اقتصاداتها، مع ارتفاع الطلب العالمي وصولاً إلى ملياري وردة سنوياً.
قبل فترة أنشأ الشقيقان عبد الحق وفريد لطرش مزرعة لإنتاج الورود في منطقة بوفاريك التي تبعد مسافة 50 كيلومتراً عن جنوبي العاصمة الجزائرية، وباتت تنتج عشرات من أنواع الورود ذات الألوان والأصناف المختلفة. 

ويخبر فريد "العربي الجديد" أنه كان يملك محلاً صغيراً لتزيين سيارات الأفراح وبيع باقات ورود خاصة بمناسبات رسمية وأعياد، ثم لاحظ ارتفاع الطلب على هذه المادة في فصل الصيف ففكر بإطلاق مشروع استثماري مربح وظف فيه خبرته في التعامل مع الورود وتقليمها. ويشير إلى أنه يوزع حالياً كميات من الورود تتميز بجودتها على محلات كثيرة تتواجد في العاصمة، ويؤكد أنه أدخل تقنيات عصرية على أساليب الإنتاج التي تتضمن توفير معايير زراعية عالية.
وعموماً تزور عائلات عدة مزارع الورود في الجزائر، خاصة خلال عطلة نهاية الأسبوع. ويتحدث فريد عن أن الذين يعبرون الطريق السريع الذي يربط بين العاصمة الجزائر ومنطقة البليدة يغريهم منظر اللوحة الطبيعية متنوعة الألوان فيضطرون إلى التوقف لالتقاط صور داخل المزرعة أو لشراء ورود من أجل إعادة غرسها في حدائق منازلهم أو إهدائها إلى أصدقائهم أو إلى مرضى في مستشفيات. 

ثقافة عائلية
يتابع: "نسمح للزوار بالتنزه في مزرعة الورود والتقاط صور، ونقدم أيضاً وروداً مجانية لهم، ما أنجح تجارتنا، علماً أن هدفنا ليس التجارة بالورود، لكن أيضاً العمل لاستعادة غرام الجزائريين بهذه المادة التي كانت تملأ البيوت سواء في المناطق الريفية أو المدن". ويشير إلى أن أسعار شتلات الورود تتراوح بين خمسة إلى عشرة دولارات، بحسب النوع.
وفي ساحة التوت بقلب مدينة البليدة قرب العاصمة الجزائرية، يلتقي منتجو الورود والنباتات الزهرية في معرض كبير يقام سنوياً لعرض أجود وأشهر الأنواع التي تغري الزوار بأشكالها المختلفة، خاصة أن البليدة كانت تلقب بمدينة الورود استناداً إلى تقاليد تعود إلى زمن الاستعمار الفرنسي، وواقع اهتمام ربات منازل بالنباتات الزهرية. 
ويجد عشاق الجمال راحتهم وأذواقهم المختلفة في معرض ساحة التوت. ويقول مراد سالي، رئيس جمعية أصدقاء البيئة لولاية البليدة، لـ"العربي الجديد": "يهدف القائمون على المعرض إلى إحياء تقليد عريق عرفه أهل البليدة طوال عقود، وكذلك إلى تغليب ثقافة الورود والذوق الإنساني الراقي اللذين يشتهر بهما سكان المنطقة، والإفساح في المجال أمام التجار والمستثمرين للترويج والتعريف بمختلف الورود والنباتات الموجودة في العالم" .
ويقول الدكتور عبد النور تادبيرت، المتخصص في علم الاجتماع، لـ"العربي الجديد": "لم تعد ثقافة الورود تنحصر في المناسبات كما كانت الحال سابقاً من خلال زيارة مريض أو المشاركة في مناسبات رسمية، بل أضحت ثقافة عائلية خاصة مع التغير السكني الذي عرفته الجزائر، وتوجه النساء بنفسهن إلى محاولة تزيين الشرفات والمداخل الخاصة بالبيوت، وإنشاء حدائق منزلية مع ارتفاع مستوى المعيشة والمستوى التعليمي للجزائريين".

الصورة
ليست الورود للمناسبات فقط اليوم في الجزائر (فايز نور الدين/ فرانس برس)
ليست الورود للمناسبات فقط اليوم في الجزائر (فايز نور الدين/ فرانس برس)

تزيين الساحات
وقبل فترة سمحت السلطات الجزائرية بتنظيم معرض مفتوح استمر أشهراً لباعة شتلات تضم مختلف أنواع الورود. ومع تزيين ساحة البريد المركزي وسط العاصمة الجزائرية بالورود شكل ذلك مشهداً جميلاً كسر منظر الإسمنت الطاغي على وسط العاصمة، وانتشرت مزهريات كثيرة حملت أنواعاً مختلفة ومتعددة من الأزهار والورود والشجيرات التي جلبها أصحابها من هواة الطبيعة وأصحاب مشاتل من مختلف المحافظات المجاورة.
وشارك في المعرض عمي علي بوعكاز الذي اعتبر أقدم بائع ورود في ساحة البريد المركزي بالعاصمة كونه زاول نشاطه منذ عام 1955، وبقي متمسكاً به ويداعب الزهور يومياً للاختيار منها وجمع باقات رائعة حتى رحل عن الدنيا فحمل الجزائريون صوره وترحموا عليه، في مشهد أكد الارتباط الوثيق للجزائريين بباعة الورود.

ويقول الأمين العام للمجمع الجزائري للهندسة الريفية علي زموش لـ"العربي الجديد" إن الإقبال الكبير للجزائريين على الورود بات موضع اهتمام الجهات الرسمية التي وضعت برنامجاً لإعادة بعث شعبة إنتاج الورود المتخصصة في المساحات الخضراء في كل المؤسسات الحكومية. وقررت هذه الجهات غرس 200 نبتة ورود خلال السنوات الثلاث المقبلة، مع وضع برنامج لتكوين الكوادر والمهندسين التابعين للمجمع الجزائري للهندسة الريفية، وذلك بالتنسيق مع الجامعات الجزائرية والمعاهد الوطنية.
ويشير إلى أن "الوقت حان لوضع إستراتيجية وطنية للنهوض بهذا القطاع وإعادة بعثه نظراً إلى أهميته الاقتصادية والاجتماعية، مؤكداً أن كل الوثائق والأبحاث تؤكد أن منطقة المنيعة (جنوب) وحدها تستطيع أن تنافس دولة كينيا في إنتاج الورود". وتضم المنيعة 646.299 هكتاراً من المساحة الفلاحية بينها 48.545 هكتاراً من المساحات الفلاحية المستغلة والمسقية، وتشتهر أيضاً باحتضانها مواقع سياحية وباهتمامها بالصناعات التقليدية وأيضا بإنتاج الطاقة الجديدة".
ويطالب زموش بتعزيز الاستثمار في قطاع زراعة الورود بالتنسيق مع الجامعات وباستعمال تقنيات حديثة تخلق صناعة طبيعية وبيولوجية تشكل التوجه الرئيسي في مختلف دول العالم".

المساهمون