يتيح القانون العراقي لكل أسرة حيازة سلاح خفيف مرخص، لكن كثيراً من الأسر تمتلك أسلحة مختلفة، ما يجعل إطلاق الرصاص في المناسبات ظاهرة منتشرة.
خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، بلغ عدد ضحايا إطلاق النار العشوائي خلال المناسبات الاجتماعية في العراق، مثل الزواج والعزاء والختان، أو الاشتباكات العشائرية، 19 عراقياً، وأصيب عشرات آخرون، وتصدرت بغداد وميسان والمثنى والبصرة قائمة المدن في عدد الضحايا، وفقا لأرقام حصلت عليها "العربي الجديد".
يؤكد مسؤول في وزارة الصحة العراقية لـ"العربي الجديد"، أن ظاهرة إطلاق النار في المناسبات وطقوس الفصول العشائرية باتت تكلف العراق خسائر بشرية شهرياً، وأن الحكومة عاجزة عن تنفيذ وعودها بحصر السلاح، أو منع هذه الممارسات التي باتت أخيراً تشمل إطلاق النار احتفالاً بفوز فريق رياضي، وليس الأمر قاصراً على الفرق العراقية، بل بطاول فرقا أجنبية أيضاً. ويلفت المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أن "سقوط ضحايا بالرصاص العشوائي بات أمراً متكرراً، والمستشفيات تستقبل مصابين بشكل دائم، وكأنهم يحتفلون بقتل الآخرين بالرصاص الحي في الشوارع، أو كأن الاحتفالات لا تصلح من دون إطلاق الرصاص في الهواء".ً
وفي مؤشر على استفحال الظاهرة، انتشر مؤخراً، مقطع فيديو يظهر إطلاق شخص خلال مناسبة اجتماعية مقذوفاً من طراز RG7 المضاد للدروع، وهو نوع من المقذوفات لا يفترض أن يكون متوفراً لدى المواطنين العاديين، والرائج شعبياً هو استعمال بندقية "الكلاشنكوف" الشهيرة في إطلاق النار، وأنواع أخرى من الأسلحة غالبيتها روسية الصنع.
ويحمّل حقوقيون عراقيون السلطات الأمنية مسؤولية استفحال ظاهرة الرصاص العشوائي، ويؤكدون أن السلطات لا تقوم بتفعيل القوانين الخاصة بحظر استعمال الأسلحة داخل الأحياء السكنية. يقول القانوني العراقي كاظم السامرائي، لـ"العربي الجديد"، إن "القانون العراقي القائم يعاقب المخالفين بالسجن حتى 3 سنوات، وفي حال تسبب في وقوع ضحايا قد تصل العقوبة إلى 15 عاماً، لكنه لا يتم تفعيل القانون، وبعض الأشخاص لا تستطيع الجهات الأمنية القبض عليهم لكونهم ينتمون إلى مليشيات أو عشائر، والمناسبات العشائرية يتكرر فيها إطلاق الرصاص بشكل مكثف، وتنكر العشيرة دائماً معرفة الفاعل". ورغم أن العديد من هذه الظواهر يتم تصويرها في مقاطع فيديو، وتداولها بشكل واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من التباهي، لكن السامرائي يؤكد أن "بعضها يجري إهماله لعدم قدرة الجهات الأمنية على تنفيذ المهمة لكون الفاعلين تحميهم إما العشيرة أو المليشيا".
ويعتبر البعض أن سكان المدن أكثر التزاماً بالقانون، وابتعاداً عن الانغماس في ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي مقارنة بسكان القرى والأرياف، لكن الواقع يؤكد أن عدد الضحايا في المدن ليس أقل من ضحايا القرى. وانتشر مؤخراً، مقطع مصور لنزاع عشائري داخل مدينة الصدر شرقي العاصمة بغداد، ويظهر فيه عشرات الأشخاص المدججين بالسلاح الآلي، وهم يطلقون الرصاص بكثافة خلال توجههم ناحية منطقة يسكنها خصومهم من قبيلة أخرى تسكن في ذات المنطقة، بينما مركبة تابعة للشرطة تقف في ذات الشارع، وينظر أفراد الأمن داخلها إلى ما يجري أمامهم من دون أن يحركوا ساكناً.
ويقول نقيب الشرطة، علي المالكي، لـ"العربي الجديد"، إن "بعض هذه الحالات لا يمكن مجابهتها، لأسباب أهمها أن الأشخاص المخالفين ينتمون لمليشيا نفوذها أكبر من نفوذ القوات الأمنية، فضلاً عن انتشار السلاح لدى السكان، ما يجعل من أي عملية مداهمة مصدر خطر على القوات الأمنية إن لم تكن مجهزة بقوة كبيرة". وفق القانون العراقي، بإمكان كل أسرة الاحتفاظ بقطعة سلاح خفيفة، على أن تكون مرخصة، لكن تبعاً للتقاليد، يحتفظ العراقيون بالعديد من الأسلحة المختلفة داخل المنازل، ولا يتوقف الأمر على الأسلحة الخفيفة عادة، بل تمتلك بعض الأسر أسلحة ثقيلة أيضاً. ويضيف النقيب المالكي، أن "صعوبة متابعة الظاهرة للتحكم فيها أمنياً سببها الإسناد العشائري. دور العشيرة يحسب حسابه لما تملكه من ثقل، خاصة وأن جميع العشائر مسلحة، وأغلبها لديها ارتباطات بشخصيات حكومية، أو مليشيا نافذة، ما يجعل من ملاحقة أفرادها أمنياً مهمة فاشلة، وخطيرة أحياناً على القوات الأمنية".
بدوره، يقول عضو مجلس شيوخ عشائر بغداد، الشيخ أحمد العكيدي، لـ"العربي الجديد"، إن "جميع شيوخ القبائل ضد ظاهرة إطلاق النار العشوائي في المناسبات المختلفة، ورجال الدين من مختلف الطوائف أفتوا مرات عدة بحرمتها. لكن لا يزال هناك عدم التزام، والسبب يرجع دائما إلى النزعة العشائرية، والتعصب القبلي السائد، والعادات المتوارثة، بالإضافة إلى قلة الوعي لدى كثيرين، وكلها تسهم في بقاء الظاهرة التي يمكن السيطرة عليها في الأعراس وتشييع الجنائز، وليس في التقاليد المتوارثة مثل الدكة العشائرية". يُذكر أنّ "الدكة العشائرية" تنتشر في أنحاء العراق، وخصوصاً بين عشائر وسط وجنوب البلاد، وخلالها يهجم أفراد العشيرة المسلحون على منازل خصومهم وسط إطلاق الرصاص العشوائي في الهواء على مسافة قريبة من أسطح المنازل، وتعتبر رسالة تهديد متوارثة لكي يفي شخص من تلك العشيرة بما يطلبونه من دية سبق إقرارها في جلسة عشائرية.
ولا يستغرب العراقيون سماع أصوات الرصاص في داخل المدن بعد أن باتت أمراً مألوفاً، بل إن كثيرين يتحينون الفرصة لأي مناسبة لممارسة إطلاق الرصاص، ويقول كثيرون إنهم يهوون القيام بذلك، ومن بينهم حيدر الكعبي، الذي يحرص على أن تكون بندقيته "جاهزة باستمرار".
ويقول الكعبي لـ"العربي الجديد"، إن "رمي النار تقليد شعبي متوارث، ومن الصعب القضاء عليه لأنه متأصل في الشخصية العربية العشائرية"، ورغم اعترافه بأن الظاهرة تتسبب في الأذى للناس، وأنه أحيانا يقع أحد أفراد أسرته ضحية، لكنه يؤكد أنها "عادة محببة بالنسبة لي، ولا أستطيع تركها".
ويؤكد عراقيون أنهم يحتاطون قدر الإمكان لتفادي الإصابة بالعيارات النارية العشوائية في أي وقت. ويقول نزار عيسى، وهو موظف في وزارة الكهرباء، لـ"العربي الجديد"، إنه "من الأسلم للإنسان ألا يخرج من داره إلا للضرورة، وفي حال خروجه عليه الحذر. لكن كيف نفعل ذلك؟ شخصياً أحاول اتقاء الرصاص العشوائي عبر السير بمحاذاة الأسيجة والجدران والأبنية، لكن الأمر صعب في كثير من الأحيان". أما زوجته أنوار الطائي، وهي موظفة أيضاً، فتقول لـ"العربي الجديد"، إنها تخشى على أولادها الذين يذهبون باستمرار للعب الكرة مع أصدقائهم، كما تعتمد عليهم في شراء الاحتياجات المنزلية، مبينة أنهم "أهداف سهلة للرصاصات الطائشة".