مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.
أحرز المنتخب الفرنسي كأس العالم لأوّل مرة عام 1998 حين انتظم المونديال على أرضه. لقد تأخّر تحقيق اللقب العالمي في فرنسا مقارنة بجيرانها في ألمانيا وإيطاليا (ثلاث كؤوس عالم لكل منهما آنذاك) وإنكلترا (تتويج واحد). قبلها، لم يحقق الفرنسيون غير لقب أوروبي يتيم في 1984 (أيضاً حين عُهد التنظيم لفرنسا)، وكان حضور الديوك في كأس العالم متذبذباً. أما بعد 1998، فستسيطر فرنسا لبضع سنوات على الكرة العالمية، مع تحقيق كأس أوروبا عام 2000، وكأس القارات في 2001 و2003، وصولاً إلى تتويج جديد بكأس العالم 2018. فجأة انقلب التأخر التاريخي للمنتخب الفرنسي إلى أسبقية. فماذا حدث؟
في بداية مونديال 1998، لم يكن المنتخب الفرنسي مرشحاً لنيل اللقب بالنظر إلى غيابه عن آخر دورتين (إيطاليا 1990 وأميركا 1994). وإلى ذلك، كانت الشكوك تحوم حول تشكيلة المنتخب، ليس لأسباب رياضية فحسب حيث سادت حالة من عدم الرضا تتعلق بكون المنتخب لا يعبّر حقاً عن فرنسا، مع لاعبين معظمهم من أصول أفريقية ومغاربية. وبغض النظر عن كل ذلك، لم يقدّم الفريق الفرنسي قبل كأس العالم ما يطمئن أنصاره ويمنحهم قليلاً من التفاؤل.
حتى خلال الدورة ذاتها، لم يظهر المنتخب الفرنسي بشكل مقنع، فلم يواجه اختبارات حقيقية في الدور الأول، ثم اجتاز باراغواي بصعوبة في ثمن النهائي، وتخطى إيطاليا بضربات الترجيح بعد انتهاء اللقاء دون أهداف، وفي النصف النهائي اجتاز أيضاً بصعوبة كرواتيا التي تشارك لأول مرة في المونديال. وحدها المباراة النهائية ضد البرازيل هي التي خلقت أسطورة المنتخب الفرنسي الذي بات بعدها قوة كروية ضاربة.
كانت أطروحة المدرب إيميه جاكيه واضحة: صحيح أن فرنسا لا تمتلك فلسفة كروية خاصة بها مثل المدارس الأخرى، لكنها تستطيع أن تستفيد من جميعها وتحقق الانتصارات، فهذه الأخيرة يحققها اللاعبون على أرض الميدان لا ما تحمله المنتخابات من تاريخ. وفيما بدا الفوز على البرازيل مستحيلاً لكثيرين، باعتبار أن الفريق الذي يلعب كأس العالم 1998 أقوى من ذلك الذي فاز بدورة 1994، مع أسماء لامعة مثل رونالدو وكافو وريفالدو وروبرتو كارلوس وتافاريل، كان جاكيه يعرف طريق النصر، إذ يكفي انتهاز أخطاء منافس بهذا الحجم حتى تقلب الطاولة عليه، وهو ما تحقق من خلال استغلال سوء التمركز الدفاعي للبرازيليين في الركنيات (هدفا زيدان اللذان حسما النهائي).
لم يكن نجاح الفرنسيين في حصد أول كأس عالم هو أبرز ما كشفته تلك الدورة، فقد أظهرت كذلك الموقع الذي باتت تتخذه الرياضة في سياسات الدولة الفرنسية. وقد لفت الانتباه وقتها الحضور المكثف للرئيس جاك شيراك مع لاعبي منتخب الديوك، وانفلات فرحه عند تسجيل الأهداف بشكل لا يتلاءم مع صورته المعروفة كرجل دولة حريص على قيم الجمهورية الخامسة وتقاليدها.
لا يذكر أحد أي اهتمام خاص لشيراك بالرياضة، غير أنه خلال كأس العالم تحوّل إلى شخص مختلف تماماً، فحضر المباريات وتفاعل مع المراوغات والأهداف وأعلن أنه "المناصر الأول للمنتخب الفرنسي" وهي تسمية سيرثها عنه الرؤساء اللاحقون من ساركوزي إلى ماكرون. وقبل منعطف 1998، لم يسجّل التاريخ السياسي الفرنسي حضوراً بارزاً للرؤساء في عالم الرياضة، أو حتى اهتماماً لافتاً بها، من كليمنصو بداية القرن العشرين إلى ميتران الرئيس الذي سبق شيراك في الإليزيه.
وإذا كان شيراك قد سمّى نفسه "المناصر الأوّل للمنتخب"، فالأحرى القول إنه "المراهن الأول" عليه، فقد ضرب الرئيس الفرنسي عصافير كثيرة مع نيل بلاده كأس العالم. كان الفرنسيون مذهولين من الدعم الكبير الذي أخذ شيراك يقدّمه لمنتخب الديوك، وفي عزّ موجات الانتقادات للمدرب إيميه جاكيه ذهب إلى معسكر التدريبات لمساندته والتأكيد على اختياراته في مواجهة صحافة غاضبة من ترك لاعبين في قمة العطاء مثل إيريك كونتونا ودافيد جينولا، والتعويل على شبان لم تشتد سواعدهم بعد مثل زيدان ودجوركاييف وتيري هنري. كثيرون سيفهمون لاحقاً أن ذلك الدعم لم يكن مجرّد حبّ للمنتخب الفرنسي، لقد كان لغاية في نفس شيراك.
في تلك السنوات، كان الرئيس يعيش حالة من الضغط السياسي المزدوج: يسارٌ يسيطر على الحكومة بقيادة ليونيل جوسبان، ويمينٌ صاعد يتزعّمه جان ماري لوبين يتنامى تأثيره في الشارع. لم يكن انهماك شيراك في عالم كرة القدم إلا منفذاً اهتدى إليه بخبرة سياسي متمرّس يعرف ما سيجنيه من رهانه. وحين انتصر المنتخب، سرعان ما صعدت شعبية شيراك الذي فرض نفسه في كل صورة احتفالية، وجعل من خطابه السياسي مثل مواكبة للمونديال أو تعليق حيٍّ على أداء المنتخب. أثّث شيراك كل تصريحاته وقتها بالإشارة إلى تجدد عظمة فرنسا، ونجاح رهان الدولة على أبناء المهاجرين الذين شاركوا في ملحمة اللقب العالمي، وأن هذا المنتخب المتوّج هو صورة فرنسا الجديدة. وقد منحته تلك اللحظة خزّاناً انتخابياً مكّنه من الهيمنة على الحياة السياسية حتى نهاية ولايته في 2007.
بين ليلة وضحاها، باتت سياسات الهجرة ناجحة في فرنسا. لقد عرف شيراك كيف يستغل أفراح كأس العالم 1998 ليصوغ مقولة جديدة جامعة للفرنسيين، لكنه - وغيره من الرؤساء اللاحقين - كانوا يبالغون في تمجيد المنتخب من هذه الزاوية، غافلين (أو متغافلين) عن أن 11 لاعباً لا يستطيعون اختزال كل الواقع الفرنسي ومحو شروخاته.
صحيح أن هذا المنتخب ينجح في تحقيق ما يفشل فيه أي خطاب سياسي أو فكري يحاول توحيد الفرنسيين، لكن لا يحدث ذلك إلا زمن الانتصارات، ففي الهزائم تتجه أصابع الاتهام إلى أبناء المهاجرين أولاً وإلى قلة حميّتهم تجاه الوطن. وصحيح أن المنتخب الفرنسي بات تعبيراً عن تكافؤ حقيقي للفرص بين جميع الأعراق، لكن هذا لا يعني أن الفرص متكافئة في كل المجالات في فرنسا، ومنها الصف الأول من الطبقة السياسية، وموقع الرئيس تحديداً.
وإذا كان رؤساء اليوم يستثمرون في خطاب التنوّع الإثني، ويجعلون من الرياضة عُملة قابلة للصرف السياسي، فالحال لم يكن كذلك من قبل. لقد توفّرت فرصٌ كتلك التي تهيّأت في 1998 لرؤساء سابقين، فمثلاً جاء تتويج فرنسا بكأس أوروبا عام 1984 حين كان فرانسوا ميتران في الحكم، ورغم أن ركائز المنتخب الأزرق كانوا أيضاً من أبناء المهاجرين مثل بلاتيني ذي الأصول الإيطالية، وتيغانا من أصل ماليّ، لا نعثر على أي ربط بين سياسات الهجرة ونجاح المنتخب الفرنسي في منطوق ميتران. من منظور اليوم، يبدو الرئيس الذي حكم فرنسا من 1981 إلى 1995 كمن فوّت على نفسه فرصاً كثيرة لتغذية شعبيته، غير أن السياسة وقتها كانت تتوسّل بروافع أخرى غير الرياضة.
كان الانتقال بين ولايتيْ ميتران وشيراك مثل الانتقال بين زمنين. انتقلت فرنسا إلى استثمارات جديدة في صورتها، وكأنما استُبدلَ البحث عن الهيمنة الثقافية بالتطلع إلى الهيمنة الرياضية. لا يقتصر الأمر على كرة القدم، وفقد حصدت فرنسا أيضاً كأس العالم لكرة اليد عام 1995، لأوّل مرة، وكان ذلك المنتخب بلا تاريخ هو الآخر، وبلاعبين من أصول عرقية متنوّعة، وفي عقدين أصبحت فرنسا البلد أكثر تتويجاً بكأس العالم (ست مناسبات).
يعبّر كل ذلك عن تغيّر في الشكل الذي تريد أن تحضر من خلاله فرنسا في العالم. بالتالي، بعد أن كان نجوم فرنسا أسماء مثل فيكتور هوغو وإيميل زولا وجان بول سارتر وغوستاف فلوبير، بات أشهر الفرنسيين في العالم اليوم: زين الدين زيدان، وكيليان مبابي، وأنطوان غريزمان، وكريم بنزيمة. أن يأخذ هؤلاء مكان أولئك في الواجهة يكشف تحوّلات فرنسا، ولعلّها تحوّلات العالم بأسره.