من تاريخ المنتخبات (7).. أوهام الإنكليز في التفوّق الكروي

08 ديسمبر 2022
استعادة تتويج إنكلترا بكأس العالم 1966 كتحية للملكة إليزابيث الثانية بعد وفاتها (getty)
+ الخط -

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.

في البدء كانت كرة القدم فكرةً إنكليزية. كرة القدم ليس بوصفها لعبةً فحسب، فذلك مما يخترعه الشُبّان في كل مكان، بل باعتبارِ تحويلِها إلى فضاء اجتماعي مضبوط بقواعد، يُصاحبه نسيج مؤسساتي وأطر قانونية وتغطية إعلامية، فيلامس بذلك كل قطاعات الحياة.

وأكثر من ذلك، توفّرت لكرة القدم في مهدها الإنكليزي قابليةٌ للعولمة، ومن هذا الفارق بين تاريخ الكرة في موطنها الأول وتاريخها في العالم يمكن أن ننظر إلى مسار المنتخب الإنكليزي، وهو المنتخب الوحيد الذي يمكن أن نمسح معه تاريخ كرة القدم في مجمله، لا ينافسه في ذلك ربما إلا منتخب الجار الاسكتلندي، وكانت أوّل مباراة بين منتخبين قد جمعتهما في عام 1872.

في مثل هذا العام، كانت بقية شعوب الأرض خارج التاريخ الكروي تماماً. لن تصل إلى مرحلة اللعب تحت راية منتخبٍ موحّد بلدانٌ كثيرة إلا مع بداية القرن العشرين، مثل الأرجنتين (1901) وفرنسا (1904) والبرازيل (1906) وإيطاليا (1910) وألمانيا (1920)، وهي منتخبات تفوّقت لاحقاً على إنكلترا من منظور التتويجات العالمية.

هكذا يبدو تاريخ كرة القدم - حين نضعه على سلّم الزمن في بريطانيا - مثل مجموعة عناصر ما فتئت توقظ الإنكليز من وهم التفوقّ الكرويّ. وهمٌ يصعب تفكيكه، ذلك أنه يستند إلى حقيقةٍ - وهنا تكمن حدّة مفارقته - فلم تكن كرة القدم لتوجد لولا أن توفّرت شروط ولادتها كاملة في إنكلترا، دون غيرها من بلاد الأرض. وما تاريخ كرة القدم - إذا نظرنا للأمور من الزاوية المقابلة - إلا عملية تحرّر طويلة من المركز الإنكليزي، وقد صادف أن حدث ذلك - منذ نهاية القرن التاسع عشر - حين بدأت لندن تفقد بالتدريج سيطرتها على "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، ولم تبق غير مظاهرٍ ديكورية من أبهة العصر الفيكتوري وبقية من القوة العسكرية ستتكفّل عقود المنتصف الأول من القرن العشرين بتحجيمها.

وفي الحقيقة، تهيّأت لإنكلترا عوامل تاريخية كثيرة كي تسبق العالم إلى كرة القدم، ففوق أرضها تجسّد انتصار الرأسمالية بعد تراكم عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية على مدى قرون. وكان لهذا الانتصار الحاسم - انطلاقاً من المركز اللندني - دوره في بثّ نزعة قوْننة كل شيء، حتى الألعاب التي يتخذها الشباب وسيلة لتجزية الوقت، وفي الخلفية يمكن أن نستشفّ محاولة للضبط الاجتماعي بتوفير فضاءات لاستثمارٍ منفعي لأوقات الفراغ، وما كان البحث عن قواعد للعب الكرة سوى نوع من التايلورية مطبّقة على فضاء اللعب، بعد نجاحها في الصناعة بوضع تنظيم عقلاني للعمل يقوم على توزيع أدوار ثابتة من أجل مردودية أعلى، وبالتالي، لم تعد كرة القدم ركضاً وراء كرة وقذفاً لها، بل مجموعة لاعبين مقسّمين حسب هندسة دقيقة بين مهاجمين ومدافعين وأجنحة وأظهرة وحرّاس مرمى.

لم يكن كل ذلك كافياً لو لم تتوفر في بريطانيا صحافة قادرة على تحويل أخبار اللعبة إلى صناعة استهلاكية. وقبل ذلك، جعل اللعب فضاء مرئياً تظهر على صفحته تعبيرات اجتماعية شتى، وقد كان منطلق إنشاء الفرق محاولات لإكساب الهويات الطبقية والعرقية والمهنية مقداراً من المرئية في الفضاء الاجتماعي المزدحم. وإلى ذلك، حظيت الكرة في إنكلترا بدعم لوجستي لم يكن ليتوفر في غير المكان الذي دارت فيه أغلب فصول الثورة الصناعية، فالبلد الذي سبق غيره في اختراع القطار، ثم في إنشاء شبكة سكك حديدية تربط جهاته الأربع، هو الأقدر على جعل المواجهات بين الفرق الناشئة ممكنة. وحين تشابكت وترابطت هذه العوامل، كانت مخرجاتُها محركات دفعٍ فاعلة أتاحت لكرة قدم - من بين مئات الأنشطة الاجتماعية الأخرى - أن تكون ما هي عليه اليوم.

هل أفادت هذه الأسبقية التاريخية المنتخب الإنكليزي؟ على الأرجح، كان لها مفعول عكسيٌّ، فهذه الأسبقية تفسّر الكثير من تأخر "منتخب الأسود الثلاثة" كُروياً.

لم يحبّ الإنكليز أن يصدّقوا بأن تاريخ كرة القدم يقع في أماكن أخرى غير جزرهم، وقد دفعوا مقابل هذا الإنكار ثمناً باهضاً. ولما استفاقوا في منتصف القرن العشرين (يقابل موجة انكماش جديد للإمبراطورية بعد الحرب العالمية الثانية)، وجدوا الإيطاليين والألمان وشعوب أميركا اللاتينية وقد أعادوا اختراع كرة القدم من جديد. صحيح أنهم حافظوا على القوانين التي وضعها الإنكليز للعبة، ولكنهم ضخوا فيها الكثير من تقاليدهم وخيالهم تاركين أصحاب الفكرة وراءهم. ثمّ إن الإنكليز قد فعلوا بأنفسهم أكثر مما فعل بهم الآخرون. فبشكل ما، هم من أقصوا أنفسهم من تاريخ الكرة العالمي.

حين فكّر الفرنسي جول ريميه في إنشاء اتحاد دولي لكرة القدم (النواة الأولى للفيفا) رفضت جميع الاتحاد البريطانية المشاركة، على الرغم من كون ريميه قد استلهم هذا الاتحاد من المنظومة التي تدار بها كرة القدم في الجزر البريطانية، التي كانت قد أنشأت اتحاداً يجمع كلاً من منتخبات إنكلترا واسكتلاندا وويلز وأيرلندا، ومن هنا فكّر ريميه في تعميم الفكرة على بقية البلدان الأوروبية في مرحلة أولى، ومن ثم نقلها إلى مستوى عالميّ، لكنه اصطدم سريعاً بالرفض الإنكليزي، فسار بمشروعه بعيداً عن المانش.

وحين أطلقت الفيفا في 1930 مسابقة كأس العالم، اعتبرت الاتحادات البريطانية أن هناك فوارق بين منتخباتها المتطورة وبقية البلدان، ولا فائدة من المشاركة مع وجود كأس بين الأمم البريطانية ذات تنافسية أعلى، وما "بطل العالم" إلا الفائز بها.

لم تكن هذه القرارات مجرّد استعلاء كروي، فهي قريبة من مبدأ "العزلة الرائعة" الذي كان يحرّك السياسات الخارجية البريطانية في القرن التاسع عشر، وهو مبدأ يقوم على تحاشي التدخلّ المباشر في صراعات القارة الأوروبية، مع الإبقاء على حضور يضمن للندن وضع قواعد لعبة في صالحها، وكانت الإمبراطروية البريطانية قد فرضت مبدأ توازن القوى على الدبلوماسية الأوروبية منذ واترلو (1815). وكأنما حدث في كرة القدم ما حدث في السياسة، حيث إن هذا التوجّه الذي كان بادئ الأمر سبباً في تحقيق مكاسب للإنكليز أصبح، مع تغيّر العالم من حولهم، مصدر ضعف.

لم تبدأ إنكلترا مشاركاتها في كأس العالم إلا عام 1950، وكانت صدمة بالغة حين غادر "منتخب الأسود الثلاثة" المسابقة من الدور الأول بعد هزيمتين من إسبانيا والولايات المتحدة الأميركية. ثمّ تلاحقت هزائم الإنكليز في كأس العام في المشاركات الموالية (أوروغواي في 1954، الاتحاد السوفيتي في 1958، البرازيل في 1962)، وهو نزيف لم يوقفه سوى منح إنكلترا تنظيم كأس العالم 1966 في ما يشبه مصالحة كرة القدم مع موطنها الأصلي.

توفّرت عوامل كثيرة لنجاح تلك الدورة، فقد حظيت باحتضان جماهيري واسع، وخدمتها أدوات دعاية لم تتوفر لغيرها من الدورات. رياح جديدة كانت تهبّ على أشهر مسابقات كرة القدم، وصادف أيضاً أنها أوّل دورة يمكن نقلها تلفزيونياً وتسجيلها بالألوان.

مرة أخرى، استفاد الإنكليز من ترسّخ الرأسمالية في ديارهم، وهذه المرة ضمن أجواء احتفاء دوليّ. حتى على مستوى النتائج الكروية، بدت حكاية تلك الدورة مثيرة ومحبوكة لكي تُفضي إلى نهاية سعيدة للجميع، الفيفا التي نجحت في نقل كأس العالم إلى حدث عالميّ بارز، ومنتخبات جديدة سجّلت حضورها، وأخيراً فوز الإنكليز بالكأس التي قدّمتها الملكة إليزابيث الثانية بنفسها للاعبين. كانت نهاية سعيدة إلا على الألمان الذين يذكرون إلى اليوم احتساب هدف غير شرعي ضدّهم في المباراة النهائية، ولعلّ ذلك كان جزءاً من سيناريو إعادة دمج بريطانيا ضمن تاريخ الكرة العالميّ.

ذهب في ظن الإنكليز بعد ذلك التتويج أنهم سيأخذون المكانة التي يستحقّونها في خريطة الرياضة الأكثر شعبية في العالم، ولكنهم فشلوا في إعادة إنجازهم حين أخذت الرحلةُ شرف تنظيم كأس العالم بعيداً عن جزيرتهم. كانت أفضل نتائجهم الوصول إلى نصف النهائي في دورتي إيطاليا 1990 وروسيا 2018، وظهور بشكل مشرّف في دورات أخرى قبل الاصطدام بمنتخبات أقوى، كما حدث في اللقاء الشهير ضد أرجنتين مارادونا في 1986 أو ضد برازيل رونالدو ورونالدينو في 2002.

في كل تلك الدورات، لم تسعف الإنكليز براعة لينكر في التهديف، أو دقة بيكام في التسديد، أو روح القيادة عند ستيفن جيرارد. ولم تسعفهم أيضاً تغذية فكرهم الكروي (المعتمد على الكرات الطويلة والتوزيعات) بأبرز العناصر التي حققت نجاح منتخبات أخرى، مثل العناية بالدفاع أسوة بإيطاليا، أو التأكيد على الانضباط التكتيكي مثل الألمان، أو ترك مساحة للفنّيات على الأرض مثل فرق أميركا اللاتينية.

ولم تكن هذه اللعنة التي أصابت الإنكليز خاصة بكأس العالم وحدها، ففي "كأس أوروبا"، فشل المنتخب الإنكليزي في تحقيق أي تتويج، حتى حين نظّموا دورة 1996 (غادروا في النصف النهائي أمام ألمانيا)، أو حين أقيمت المباراة النهائية لدورة 2021 في ملعب ويمبلي وخسروا بالضربات الترجيحية أمام إيطاليا.

مع هذا التاريخ الطويل من خيبات المنتخب الإنكليزي، كثيراً ما عزّى الإنكليز أنفسهم بنتائج أنديتهم في المسابقات الأوروبية، مثل ليفربول ومانشستر يونايتد، وإن فهموا أحياناً أن أحد أسباب ضعف المنتخب هو قوة الأندية، وهي مفارقة أخرى تعمل على إعاقة الإنكليز من حيث تبدو أنها في صالحهم.

هكذا هو تاريخ المنتخب الإنكليزي: تاريخ متجدّد من اكتشاف إلى أين وصلت الكرة التي أطلقوها في العالم، ماذا فعل بها البرازيليون والأرجنتينيون والطليان والألمان والإسبان. لكنهم يجرّبون حظهم باستمرار، وبأمل متجدّد، علّهم يأخذون المكانة التي يستحقونها في الملعب الذي رسموا خطوطه بأيديهم، ثم صار ملكاً للجميع.

المساهمون