مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.
بانتصاره على البرازيل في كأس العالم قطر 2022، ورغم الخروج من مرحلة المجموعات، أضاف المنتخب الكاميروني علامة جديدة في تاريخ مونديالي هو الأبرز بين المنتخبات الأفريقية. وتظلّ العلامة الفارقة في هذا المشوار انتصار الكاميرون على الأرجنتين (بحضور مارادونا) في مباراة شهيرة افتُتح بها مونديال 1990 في إيطاليا، وهي الدورة التي وصل فيها زملاء روجيه ميلا إلى الدور ربع النهائي كأول منتخب أفريقي يبلغ هذه المرحلة المتقدّمة من كأس العالم.
بعد ذلك الإنجاز، ظهرت توقعات بأن القارة الأفريقية ستنافس مستقبلاً في الأدوار المتقدمة من كأس العالم، بل ذهب بعضهم إلى القول إن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الكرة الأفريقية. لكن لا شيء من ذلك قد تحقق بشكل ملموس، وإذا كان المنتخب الكاميروني المرشح الأبرز للعب هذا الدور، فإن مساره يختزل الكثير من أحوال أفريقيا، ليس الرياضية منها فحسب. فما الذي أعاق هذا البلد في التقدّم أكثر في سباق الكرة العالمية، أو بعبارة أخرى ما الذي جعل الموجة الإيجابية التي أطلقتها مشاركة مونديال 1990 تنقلب إلى تقهقرٍ لا يزال مستمراً إلى اليوم، حتى أنه يمكن الحديث عن استقرار كاميروني في التقهقر إذا قرأنا تاريخ المنتخب من 1990 إلى يومنا هذا؟
بعضٌ من عناصر الإجابة نجدها في التاريخ السياسي للكاميرون. يكفي أن نعرف أن البلد يحكمه رجل واحد منذ أربعة عقود، فقد وصل بول مبيا عام 1982 ولم يسبقه إلى هذا المنصب غير أحمد أهيدجو الذي حكم من جانبه البلاد لأكثر من عقدين، منذ استقلال الكاميرون عام 1960 إلى تسليم السلطة لرئيس حكومته في ظروف غامضة (تشير الرواية الرسمية إلى أسباب صحية)، ومن ثم اختيار الاستقرار في المنفى الفرنسي من 1983 حتى وفاته عام 1989.
يكاد يتطابق تاريخُ الكاميرون الكرويّ مع زمن مبيا الذي لا يزال ممتداً. وللمصادفة، فإن أوّل مشاركة مونديالية للكاميرون كانت في نفس السنة التي وصل فيها مبيا للحكم، وقد حقق الفريق في إسبانيا وقتها نتائج إيجابية حيث لم ينقد لأي هزيمة، بل فرض التعادل في دور المجموعات على المنتخب الإيطالي الذي سيتوّج بطلاً للعالم في نهاية ذلك المونديال.
شجّع ذلك الإنجاز الدولة على الاستثمار في كرة القدم، في فترة تزامنت مع اكتشافات ثروات طبيعية هائلة في البلاد، وبدأت عملية بناء متينة لمنتخب قويّ تحت إشراف المدرب الفرنسي كلود لوروا، الخبير بالكرة الأفريقية، حيث أعدّ جيلاً أكل الأخضر واليابس تقريباً في القارة السمراء في منتصف عقد الثمانينات وقد تُوّج في 1984 و1988 بالكأس القارية، واستحقوا اللقب الذي أُطلق عليهم: "منتخب الأسود غير المروّضة"، ومن ثمّ ذهبت كتيبة أنطوان بيل وفرانسوا أومام بيك وسيريل ماكاناكي وروجيه ميلا إلى إيطاليا لكتابة ملمحتها.
في تلك السنوات، وعلى صورة منتخبها، بدت الكاميرون دولة ناهضة، بعد أن تخفّفت من وصاية "الأب المؤسس" واسطوانة الزعيم المحرّر. فعلى عكس أهيدجو، كان مبيا بلا تاريخ نضالي، كان ابن مؤسسات الدولة الحديثة التي انبعثت مع الاستقلال، ولم يكن له من سبيل لبناء شرعية سياسية إلا العمل على تنمية بلاده وتطويرها، وكان ذلك من حظ عقد الثمانينيات، أما ما لحقها من عقود فقد استتبّ الحكم لمبيا فأعاد سيرة طغاة القرن العشرين في أفريقيا من أمثال موبوتو وبوكاسا، بل وصل بهذا النهج إلى القرن الجديد وها هو يتمسّك بموقعه إلى اليوم.
أتت كأس العالم 1990 مثل نقطة نهاية خط تصاعدي لا يمكن بعدها سوى النزول، ولم يوقظ الكاميرونيين ما سيشاهدونهم من حال منتخبهم مع الهزائم الثقيلة والفضائح التي ستطفو في المشاركات اللاحقة.
في المونديال الأميركي (1994)، سقط المنتخب الكاميروني أمام روسيا بنتيجة كارثية ستة أهداف لهدف وحيد احتفل به اللاعبون أيما احتفال كونه حقّق رقماً قياسياً باسم الكاميرون حين سجّل روجيه ميلا هذا الهدف وهو في سن الثانية والأربعين. وعام 1998، لم يقدّم الفريق كرة تؤهله للذهاب بعيداً بعد تعادلين مع النمسا وتشيلي وهزيمة ضد إيطاليا بثلاثة أهداف نظيفة.
لا شيء تغيّر في الكاميرون رغم هذه الخيبات. كان الوصول كل مرة إلى كأس العالم يعمل مثل مُسكّن يؤجّل عملية المراجعة، وإن كان هذا الترشّح المستمر غير بعيد -هو الآخر- عن دوائر النفوذ في المؤسسات السياسية والرياضية، فقد كان رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم عيسى حياتو كاميرونياً، وكان له نفوذٌ في القارة يجعله يُقدّم من يشاء ويؤخّر من يشاء، وكثيراً ما تلبّى مشيئته من باب المحاباة. وحتى بعد مغادرته موقعه في 2017، لا تزال تحوم حوله شبهات الفساد، آخرها منح تنظيم كأس أفريقيا للكاميرون عام 2021 في بلد غير مؤهل على مستوى البنى التحتية، وفي قلب أزمة كورونا، دون أن ننسى المظلمة التحكيمية التي تعرّض لها الجزائريون في المباراة الفاصلة للوصول لكأس العالم 2022.
استمر عيسى حياتو على رأس الاتحاد الأفريقي قرابة الثلاثة عقود، وقد بدا مثل صورة مطابقة لبول مبيا في مجال آخر. كلاهما يحكم جمهوريته بيد من حديد، وكلاهما ترتسم حوله شبهات الفساد ما خلق ارتباطاً في التمثّل العالمي للكاميرون كبلد مغلق ما زال يتخبّط في التسويات القبَلية والمصالح الأوليغارشية المرتبطة بأجندات في الخارج.
والكاميرون إلى ذلك دولة طاردة، يفرّ منها كل من استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا معنى للإقامة في بلد تغيب فيه الحريات وفرص العيش الكريم. ولقد ضرب مونديال 2022 مثلاً للكاميرون، وربما لجميع البلدان الشبيهة، فقد كان السبب المباشر في خروج "الأسود غير المروّضة" هدف لاعب منتخب سويسرا، بريل امبولو، الذي لفت الأنظار بعدم مشاركة زملائه فرحتهم بالهدف الثمين الذي سجّله، فهو سليل أسرة كاميرونية هاجرت إلى أوروبا وهو في سن الخامسة بحثاً عن حياة أفضل.
مع مطلع سنوات الألفين، تهيّأ للكاميرون جيل من اللاعبين المميّزين، أبرزهم ريغوبار سونغ وباتريك مبوما وصامويل إيتو وجيرمي نجيتاب، وقد أعاد هذا الجيلُ الكاميرونَ إلى صدارة المشهد الأفريقي - بغضّ النظر عن الأيادي الخفية في الكواليس - فانتزع لقبين في كأس أفريقيا 2000 و2002، حتى إذا جاءت كأس العالم 2002 انتظر الجميع أن يذهب زملاء سونغ بعيداً في المسابقة، إلا أنهم لم ينجحوا في الخروج من الدور الأول (تجاوزتهم ألمانيا وإيرلندا).
ولم يستفق الكاميرونييون من تلك الصدمة حتى ذهلوا من عدم الوصول إلى كأس العالم 2006، مع إهدار بيير وومي ضربة جزاء في الدقيقة الأخيرة ضد مصر، وقد كان العنف الموجّه ضد اللاعب إشارة إلى ما باتت كرة القدم تمثّله للكاميرون. فحين منع الحارس المصري دخول الكرة إلى شباكه، كان كأنما منع عن شعبٍ حبّة المُسكّن الذي تُقدَّم له كل أربعة سنوات.
استأنفت الكاميرون حضورها المونديالي في نسخة 2010، لكنها قدّمت أسوأ مشاركة حين لم يحقق منتخب الأسود أي نقطة في مجموعة ضمت هولندا والدنمارك واليابان، وكذلك الحال في مونديال 2014 في البرازيل، مع هزيمتين برباعيّتين ضد كرواتيا والبرازيل، وفي 2018 فشلوا في الوصول إلى كأس العالم مرة أخرى.
وحينما عادوا في "قطر 2022" سرعان ما غادروا، وإن كان للنصر على البرازيل مفعولٌ سحريّ سيُخفي الكثير من الجوانب السلبية، ومنها حالة عدم الانضباط التي كثيراً ما تعصف بمعسكرات الفريق الكاميروني وآخرها طرد حارس المرمى أندريه أونانا منذ أيام. ولعل ذلك هو المعنى السلبي المبطّن في اللقب الذي اختاره الكاميرونيون لفريقهم: "منتخب الأسود غير المروّضة".
لا تزال عناصر مثل عدم الانضباط وسوء التصرّف المالي والمحسوبية تلازم منتخب الكاميرون (وكثيراً من المنتخبات الأفريقية الأخرى) وتشكّل صورته في الذهنية العالمية للأسف، وقد بدا أن كرة القدم فرصةٌ لتصفيتها، بيد أنها تكرّسها إلى اليوم. لكن هل يستطيع المنتخب الكاميروني أن يُلمّع صورة بلد لم يجد الطريق إلى ما بعد الحكم الفردي أو إلى التنمية العادلة التي تقود إلى نهضة يحلم بها الكاميرونيون. نهضة تساير قدرات البلد وثرواته ومنها مواهب أبنائه. سنتساءل مع المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي: متى تخرج أفريقيا من "الليل الطويل" الذي وُضعت فيه زمن الاستعمار، والذي تتضافر عوامل كثيرة - معظمها داخليّ - لبقائها فيه في مرحلة ما بعد الاستعمار...