مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة كأسي أفريقيا وآسيا 2024.
افتتحت، أمس السبت، النسخة الـ34 من كأس أفريقيا للأمم في "استاد الحسن واتارا" في أبيدجان. يحمل الملعب اسم رئيس ساحل العاج منذ 2010، ويحمل منحُ شرف احتضان مباراة افتتاح البطولة لهذا الملعب بالذات رمزية خاصة، حين نعرف أنه على مدى عقود كان "استاد فليكس أفوي-بوانيي"، في مدينة أبيدجان أيضاً، هو الملعب الأساسي الذي يحتضن أكبر الأحداث الرياضية في البلاد، وهو أيضاً يحمل اسم رئيسٍ: أول رؤساء البلاد بعد استقلالها عام 1960، ومن ثمّ استمر حكمه 33 عاماً أي حتى وفاته عام 1993.
مثل رؤساء أفارقة آخرين، عاش أفوي-بوانيي كأب للأمة. بطريرك يفعل ما يشاء دون مساءلة، أقلها تسمية الاستاد الوطني باسمه، وصولاً إلى نقل العاصمة من أبيدجان، أكبر المدن الإيفوارية ومركز ثقلها الديمغرافي والاقتصادي، إلى مسقط رأسه ياموسوكرو عام 1983، وأنشأ فيها معلماً بأبعاد فرعونية ليحتضن ضريحه. وفيما كان أفوي-بوانيي يحلم بجنازة يجتمع حول جثمانه كل الشعب الإيفواري، بدت الحشود التي استطاعت الوصول إلى موقع دفنه صغيرة جداً مقارنة بالصرح الضخم الذي شيّده.
قبل عام من ذلك، رأى الرئيس العجوز شعبه وقد خرج فعلاً بأعداد كبيرة للشوارع. لم يكن ذلك من أجله، بل كان احتفالاً بأوّل تتويج لمنتخب الأفيال بكأس أفريقيا، بعد تشويق كبير في حصّة ضربات الترجيح أمام غانا انتهت بنتيجة 12-11. في ذلك العام، حقّق جيل الحارس ألان غواميني والمهاجم جويل تيهي حلماً تعسّر تحقيقه على الإيفواريين على مدى عقود، بما في ذلك جيل الهدّاف الأسطوري لوران بوكو الذي حقّق لقب هداف كأس أفريقيا في دورتين متتاليتين (1968 - 1970).
هكذا كانت بداية التسعينيات مرحلة تقلبات بين أفراح الإيفواريين وأتراحهم، الكُروية والسياسية، وحتى الاقتصادية، فقد تقلّبت الأوضاع في البلاد بسبب انهيار أسعار الكاكاو الذي يمثّل تصديره أحد أبرز الرافعات الاقتصادية في البلاد مع القهوة والقطن والكاجو، ناهيك عن نضوب العاج؛ الثروة الأساسية التي عُرفت بها البلاد بعد عقود من الصيد العشوائي وصعود الضغط الإيكولوجي لحماية الأفيال من الانقراض.
لكن المتأمل في تاريخ ساحل العاج اللاحق سيكتشف أن البلاد لم تغادر بداية التسعينيات تلك تقريباً. بدءاً من عدم قدرتها على الخروج من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ومعظمها مرتبط بتقلبات أسواق المواد الأولية، ولكون الأسماء المُهيمنة في الحياة السياسية اليوم قد ظهرت في نهاية حكم أوفوي-بوانيي. حتى كروياً، وبعد تتويج 1992، اختفت كوت ديفوار من المواقع الأمامية إلى حين.
لم تغادر ساحل العاج عقد التسعينيات المتقلّب سياسياً واقتصادياً وكروياً
بما أنه في الأصل كان طبيباً، لعل أوفوي-بوانيي قد أحسّ بقرب نهاية أجله، فحاول ترتيب المستقبل قبل أن يرحل، تماماً مثل أبٍ يفكّر في مستقبل أسرته. في تلك الفترة الأخيرة، أفسح المجال لصعود ثلاثة "أبناء"؛ رئيس الحكومة الحسن واتارا، ورئيس البرلمان هنري كونان بيدييه، وقائد الجيش روبير غيي.
كان صعودهم في تلك السنوات الحاسمة يعني أن الرئيس العجوز سيترك السلطة لأحدهم، لكنه رحل قبل أن يرتّب كل شيء، فتحوّلوا منذ رحيله إلى "إخوة أعداء"، وسيصل جميعهم إلى منصب الرئاسة إضافة إلى لوران غباغبو، الذي يمكن اعتباره أخاً رابعاً في حبكة شبيهة بهيكل رواية "الإخوة كارامازوف". إذ يمكن اعتبار غباغبو أحد أبناء أوفوي-بوانيي بشكل من الأشكال، فرغم موقعه معارضاً ونقده اللاذع لطريقة تسيير الدولة، حرص أوفوي-بوانيي على إدماجه في الحياة السياسية قبل أن يتوفاه الأجل.
كان الأب قد قرّر فجأة أن يضع البلاد على سكّة الديمقراطية، فأتاح تنظيم انتخابات رئاسية عام 1990 شارك فيها بنفسه، وحرص على ترشّح غباغبو وعودته إلى البلاد بعد سنوات قضاها في المنفى، وهي خطوة جعلت المُعارض يعتذر أمام الكاميرات من "أب الكوت ديفوار"، ولم يكن مهماً ما ستكشف عنه صناديق الانتخاب، فقد كانت النسبة الكبيرة التي حققها أوفوي-بوانيي مثل اعتراف شعبي أخير بفضله على البلاد.
حين توفّي الرئيس، بدا الحسن واتارا الأقرب لخلافته باعتبار تجربته في تسيير الدولة، غير أن بينييه سيستغل منصبه رئيساً مؤقتاً بحسب البروتوكلات الدستورية كي يغيّر القانون الانتخابي مقصياً واتارا على خلفية أصوله البوركينابية، وبذلك دفع بمنافسه إلى المعارضة، ومن ثم إلى خارج البلاد، ليستمر بينييه في الحكم حتى عام 1999، سنة الانقلاب العسكري الذي قاده روبير غيي، الابن الآخر الذي بقي ينتظر في الظل لسنوات.
حاول الجنرال غيي أن يغلّف حكمه بمسحة ديمقراطية، فدعا إلى انتخابات عام 2000، غير أن الصناديق أخرجت لوران غباغبو فائزاً، وحين رفض الجنرال التخلي عن الرئاسة، اندلعت احتجاجات واسعة في كوت ديفوار انتهت بإسقاطه من كرسي الرئاسة، وبعد أشهر وُجدت جثّته ملقاة في أحد شوارع ضواحي أبيدجان.
مثّلت كرة القدم نقطة الضوء في بلد مزّقته الصراعات السياسية
دخلت ساحل العاج نفقاً مظلماً، ولم تكن إشارة النور فيه إلا كرة القدم. في تلك السنوات، وبعيداً عن صراع السياسيين، لمع اسم الهداف ديدييه دروغبا في الملاعب الفرنسية ثم الإنكليزية. وحوله تَشكّل جيل من اللاعبين المميّزين: يايا توري، سالومون كالو، أرونا ديندان، جان جاك تيزييه، وعبد القادر كايتا.
بدءاً من عام 2006، باتت كوت ديفوار تذكر بأمرين في نشرات أخبار العالم: الحرب الأهلية التي تدور في شمالها ومنتخب "الأفيال" الذي يقدّم كرة قدم مميزة. ورغم عدم قدرة الدولة على رعاية المنتخب، نجح زملاء دروغبا في الوصول بساحل العاج إلى كأس العالم لأول مرة عام 2006 في ألمانيا. وقد تكرّر إنجاز الوصول إلى كأس العالم خلال النسختين التاليتين (جنوب أفريقيا 2010، البرازيل 2014)، لكن الفريق كان يخرج كل مرة من دور المجموعات.
حضر هذا الجيل أيضاً في دورات كأس أفريقيا، وكان دائماً قريباً من التتويج، إلا أن تفاصيل صغيرة كانت تحرمه منه، وبدا وكأنه منتخب منحوس (مثل كوت ديفوار) فقد خسر النهائي عام 2006 أمام مصر على أرضها بركلات الترجيح، واصطدم بالفراعنة مجدداً في نصف نهائي 2008، وفي 2010 ارتطم بصخرة منتخب جزائري بأداء مميز، ووصل الأفيال مجدداً إلى النهائي عام 2012، لكنهم خسروا مجدداً بركلات الترجيح أمام زامبيا، وبضربة جزاء أهدرها دروغبا تحديداً كما في نهائي 2006.
لم يحقق ذلك الفريق اللقب الأفريقي، لكن كانت له مساهمة إيجابية في تهدئة الأجواء المشحونة في ساحل العاج. حفلت المباريات التي يخوضها المنتخب بدعوات وقف الحرب، وحين توّج دروغبا بلقب أفضل لاعب أفريقي عام 2007، استقبله الرئيس غباغبو، ولكي لا يبدو منحازاً إلى طرف، توجّه بعد أيام إلى مدينة بواكي، عاصمة المعارضة وقتها، للدعوة إلى السلام الذي تحقق نسبياً مع توقيع الأطراف المتصارعة على اتفاقية واغادوغو (2007) التي أعادت السكينة إلى البلاد.
لم تعش ساحل العاج إلا فترة هدوء قصيرة، فالتزامات إنهاء الحرب فرضت عودة الحسن واتارا إلى البلاد، وطبعاً لم يعد رئيس الحكومة السابق إلا وهو يطالب بتركته التي سُرقت منه منذ عقدين، وقد وضع في صفّه شبكة علاقات دولية تسند ظهره مالياً وإعلامياً وتحميه من كل محاولة إقصاء، فلما ترشّح لانتخابات 2010، فضّلته صناديق الاقتراع على غباغبو الذي أعاد سيرة من سبقه، برفض تسليم السلطة لتعود البلاد إلى الفوضى مجدداً، قبل اعتقال المُعارض القديم وتسليمه لاحقاً إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقتها، بلغ واتارا النقطة التي كان يفترض أن يصل إليها منذ عشرين عاماً تقريباً.
هل هي أعوام خسرتها الكوت ديفوار؟ أم مسار ضروري تدخله أمم وجدت نفسها دون مقدمات أمام الديمقراطية؟ تاريخ كرة القدم ينتصر لمناصري الحسن واتارا حيث يدعم روايتهم، فبعد سنوات قليلة من استقرار الحكم، عادت ساحل العاج إلى منصة التتويج الأفريقية بتحقيقها لقب دورة عام 2015 في غينيا الاستوائية. العجيب أن اللقب تحقق مرة ثانية بعد مواجهة غانا في النهائي، وبضربات ترجيح ماراثونية (9-8).
حدث ذلك بعد اعتزال دروغبا ومعظم رفاقه، وكأنما أكّد ذلك الانتصار نحس الجيل الذهبي، إذ لم يكن الفريق الفائز بكأس أفريقيا 2015 مرشحاً للتتويج، ولم يكن لديه نجوم ما عدا المهاجم جيرفينهو. وبعد ذلك، تقهقر المنتخب العاجي حتى إنه لم يعد مرة أخرى إلى كأس العالم، وتراجعت نتائجه في المسابقات الأفريقية، غير أن تنظيم نسخة 2024 يعني أن على منتخب الأفيال مسؤولية إسعاد جماهير متعطّشة للأفراح على أرضها.
سيحرص الرئيس واتارا على نصر كهذا ليُثبت أن كوت ديفوار بأحسن حال وهي تحت حكمه، ولا شك في أنه سيقارن منجزاته بما حققه "إخوته". وإلا فلماذا هذا الاستثمار في تشييد ملعب كبير باسمه غير بعيد من ملعب الأب أوفوي-بوانيي. كأنه يشير إلى أنه تنبغي مقارنته بالأب لا بالإخوة.
سيكون صخب كأس أفريقيا هذه الأيام مناسبة للمرح ومشاهدة نجوم كرة القدم، قبل أن تحبس الحياة السياسية أنفاسها مجدداً، ففي العام المقبل، ينبغي تنظيم انتخابات رئاسية، وقد أعلن غباغبو (78 عاماً) بعد أن برّأته المحكمة الجنائية الدولية عام 2021 عن نيته الترشح للرئاسة مجدداً، وقد يتقدّم واتارا (82 عاماً) كذلك لولاية رابعة. متى تغادر ساحل العاج بداية التسعينيات؟