تُعرف منطقة زاكارباتيه الواقعة في أقصى غرب أوكرانيا تاريخياً كمعقل للأقلية المجرية في الجمهورية، والتي تمكّنت على الرغم من اندماجها في المجتمع الأوكراني من الحفاظ على هويتها وثقافتها ولغتها، وسط مخاوف من أن تؤدّي الحرب الروسية-الأوكرانية إلى تنامي النزعة الانفصالية في هذا الإقليم المتنوع ثقافياً.
وتشير الأرقام الرسمية الأوكرانية إلى أنّ عدد سكان زاكارباتيه يبلغ نحو 1.25 مليون نسمة يتوزّعون على مساحة نحو 13 ألف كيلومتر مربّع، ولها حدود مع رومانيا والمجر وسلوفاكيا وبولندا، بالإضافة إلى جوارها مع مقاطعتَي لفيف وإيفانو-فرانكوفسك الأوكرانيتين.
ويوضح كبير الباحثين في معهد الدراسات السلافية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ألكسندر ستيكالين، أنّ "مجريّي زاكارباتيه تمكّنوا من الجمع ما بين الاندماج النسبي في المجتمع الأوكراني والحفاظ على هويتهم المجرية في آن معاً"، لافتاً إلى أنّ "المنطقة خضعت على مرّ التاريخ لسيادة بلدان مختلفة". ويقول ستيكالين لـ"العربي الجديد": "إذا نظرنا إلى مقاطعة زاكارباتيه وتشكيلتها الإثنية، نجد أنّ الأوكرانيين يشكلون الأغلبية الساحقة بنسبة 80 في المائة، ولكنّ الجالية المجرية كبيرة أيضاً وتبلغ نسبتها 12 في المائة، ويتركز أبناؤها في مدينتَي بيريغوفو وتشوب الجنوبيتَين بالقرب من الحدود مع المجر. لكنّ ثمّة مجريين كذلك في المدينتَين الكبريَين بالمقاطعة، وهما أوجغورود وموكاتشيف. وفي هذه المقاطعة، يتحدّث أوكرانيون كثيرون اللغة المجرية، الأمر الذي يزيد من تنوّعها اللغوي والثقافي تاريخياً".
وعن الأسباب التاريخية التي أدّت إلى استيطان المجريّين هذه المنطقة، يشرح ستيكالين أنّه "على رغم من أنّ السلافيين ظلوا دوماً الإثنية المهيمنة في هذه المنطقة، فإنّها ظلت تحت حكم الملوك المجريّين منذ القرون الوسطى المبكرة، ثمّ ضمن ملكية هابسبورغ، وكانت النخب مجرية الأصل. وبعد تفكك إمبراطورية النمسا-المجر نتيجة للحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، انضمّ الإقليم إلى تشيكوسلوفاكيا ثمّ احتلته المجر لفترة قصيرة في أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945). وبعد الحرب العالمية الثانية، تنازلت تشيكوسلوفاكيا عنه لمصلحة الاتحاد السوفييتي، لأنّ الأوكرانيين يشكلون أغلبية السكان".
ومع ذلك، يلفت ستيكالين إلى أنّ "المجريين مندمجون إلى حدّ ما في المجتمع الأوكراني"، قائلاً إنّ "المجريين يجيدون اللغة الأوكرانية، لكنّهم حافظوا على هوية مجرية قومية قوية، وتدعمهم في ذلك بودابست الرسمية. وثمّة علاقات وطيدة مع المجر التي يقصدها كثيرون بهدف العمل. لكنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كثيرين من أوكرانيي زاكارباتيه يجيدون المجرية ولهم صلات بالمجر التي يقصدونها بهدف التجارة أو العمل".
ولعلّها، بسبب بعدها الجغرافي عن مناطق جنوب شرق أوكرانيا التي شهدت أعنف المعارك بين القوات الروسية والأوكرانية منذ 24 فبراير/ شباط الماضي، تظل زاكارباتيه منطقة هادئة نسبياً، وقد قصدها أوكرانيون كثيرون هرباً من أتون الحرب. ومع ذلك، ما كان للوضع الراهن في زاكارباتيه أن يمرّ من دون تزايد مخاوف كييف من أن يؤدّي اهتزاز الأوضاع الداخلية إلى تنامي النزعة الانفصالية في زاكارباتيه، مدعومة ببودابست المعروفة بانحيازها الضمني لروسيا في ضوء العلاقة الشخصية الوطيدة ما بين رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد وصل الأمر إلى حدّ منع المجر عبور الأسلحة الفتاكة إلى أوكرانيا.
ويشكو مجريّو زاكارباتيه من زيادة متاعبهم بعد بدء الغزو الروسي وتعرّضهم لاستجوابات الأجهزة الأمنية على خلفية منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي صُنّفت كـ"انفصالية". وكشف واحد من هؤلاء الذين استطلعت رأيهم صحيفة غلوب أند ميل الكندية، أنّه احتُجز لمدّة ساعتَين تحت تهديد السلاح بعد نقله مساعدات إنسانية على متن سيارة تبيّن من لوحتها أنّها مسجلة في زاكارباتيه. وفي سياق متصل، وضع قاطنو أحد المنازل هواتفهم المحمولة في غرفة على حدة، بعد تحوّل أحاديثهم إلى قضايا الحرب، وذلك خوفاً من تنصّت الأجهزة الأمنية عليهم.
وعند اندلاع الحرب، هرب ذكور كثيرون إلى المجر، لتجنّب الالتحاق بالجيش الأوكراني والمشاركة في حرب "لا يشعرون بأنّها حربهم"، بحسب ما يقول تاجر مجري يُدعى فيكتور. ومع ذلك، أفاد واحد من أبناء الجالية المجرية في أوكرانيا يُدعى غيورغي ويعمل تاجراً كذلك، بأنّهم لا يدعمون غزو أوكرانيا، قائلاً إنّه "من المهم جداً أن يدرك الجميع أنّنا لسنا في صفّ بوتين"، موجّهاً في الوقت نفسه سؤالاً إلى السلطات الأوكرانية: "ماذا فعلتم كدولة لنيل احترامي؟".
وفي نهاية إبريل/ نيسان الماضي، أفادت صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس الروسية بأنّ زوجات أفراد الدفاع الإقليمي الذين أُرسلوا للقتال في منطقة دونباس شرقي البلاد، نظموا تمرداً أمام مبنى إدارة التجنيد في مدينة خوست في زاكارباتيه.
وفي ظلّ توجّه أوكرانيا منذ عام 2014 نحو إقامة دولة قومية، لم يسلم المجريون، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من القوميات الإثنية واللغوية خصوصاً الروسية، من التمييز اللغوي، بعد تمرير في عام 2019 قانون تحديد الأوكرانية كاللغة الرسمية الوحيدة للدولة والحدّ من استخدام لغات الأقليات للتعليم في المدارس وحتى في التعاملات اليومية.