منذ نحو شهرين، يواصل الأسرى الفلسطينيون الإداريون في سجون الاحتلال الإسرائيلي مقاطعة محاكم الاعتقال الإداري، وفق خطة يعتمدونها من أجل تفعيل ملفاتهم ووضع حدّ لمعاناتهم، في ظل مواصلة سلطات الاحتلال سياسة الاعتقال الإداري ضدّ الفلسطينيين من دون تقديمهم إلى المحاكمة، ومن دون الإفصاح عن التهم الموجّهة إليهم، ومن دون السماح لهم أو لمحاميهم بمعاينة المواد الخاصة بـ"أدلة اتهامهم". كما أكد نادي الأسير الفلسطيني، أول من أمس الثلاثاء، أن المعتقلين الإداريين المرضى في سجن "عوفر" قرروا مقاطعة الدواء احتجاجاً على اعتقالهم الإداري والمطالبة بالإفراج الفوري عنهم، وذلك في سياق خطة عمل ستشمل كافة السجون، في مواجهة سياسة الاعتقال الإداري، إضافة إلى خطوة مقاطعة محاكم الاحتلال المستمرة.
وقد طبق الاحتلال الإسرائيلي خلال العقود الماضية الاعتقال الإداري على نطاق واسع، وزجّ بآلاف الفلسطينيين في سجونه بشكل منظّم كوسيلة للقمع السياسي، مشكّلاً بهذا الاعتقال مخالفة جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة وللعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ولاتفاقية مناهضة التعذيب. وتصاعدت سياسة الاعتقال الإداري في حقّ الفلسطينيين كجزء من الحرب عليهم، خصوصاً أنّها تنتج عن قرارات صادرة عن إدارة الجيش الإسرائيلي والضباط العسكريين، وتستند إلى ما يسمّى "ملفات سرية" من دون توجيه تهم محددة أو إعطاء أيّ فرصة للأسير ومحاميه للدفاع عنه. ويضرب الاحتلال بذلك عرض الحائط بكلّ التنديدات الدولية الصادرة عن مؤسسات حقوق الإنسان التي تعدّ هذا النوع من الاعتقال محرّماً دولياً، وتعدّ الأسرى الإداريين أسرى رأي وضمير لا بدّ من إطلاق سراحهم.
تجدر الإشارة إلى أنّ الاحتلال أصدر منذ عام 1967 أكثر من مائة ألف أمر اعتقال إداري، ردّت محاكمه 98 في المائة منها وقد رفضت الإفراج عن المعنيين بها، في إشارة إلى أنّ محاكم الاعتقال الإداري هي محاكم صورية وغير عادلة، وفق التقرير السنوي الأخير لدائرة العلاقات الدولية في منظمة التحرير الفلسطينية. في سياق متصل، تفيد مصادر حقوقية "العربي الجديد" بأنّ "ثمّة 60 أسيراً خاضوا إضرابات فردية خاصة ضدّ الاعتقال الإداري في عام 2021، و25 آخرين خاضوا في عام 2020".
أداة قمع
في اعتقاله الأخير، أمضى الأسير المحرّر ياسر بدرساوي، من مخيم بلاطة شرقي مدينة نابلس في شمالي الضفة الغربية، ثمانية أشهر تحت نير الاعتقال الإداري من دون توجيه أيّ تهمة إليه، أسوة بمئات من المعتقلين الإداريين، علماً أنّه سبق له أن أمضى ما مجموعه عشر سنوات في سجون الاحتلال، معظمها في الاعتقال الإداري. وبدرساوي كان مرشّحاً من ضمن قائمة "القدس موعدنا" التابعة لحركة "حماس"، لانتخابات المجلس التشريعي التي ألغاها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في إبريل/ نيسان 2021، وقد اعتقل على إثر ذلك.
يقول بدرساوي لـ"العربي الجديد" إنّ "سياسة الاعتقال الإداري هي إحدى أدوات الاحتلال الإسرائيلي في قمع نضالات الشعب الفلسطيني وتغييب المؤثرين والنشطاء عن الساحة. فهو (الاحتلال) بكل مكوناته ومنظومته يستهدف الفلسطيني المناضل" في محاولة لإقناع الجمهور بأنّ هذا "مصير كل من يقاوم ويناضل. وذلك مع تبطين الخوف في نفوس الناس، في ما يخص المشاركة حتى في أبسط الفعاليات الشعبية أو السلمية. بذلك يوصل لهم رسالة: لسنا في حاجة إلى تهمة حتى نعتقلك". بالنسبة إلى بدرساوي، فإنّ "محاكم الاحتلال هي آخر ما يلجأ إليه. فقرار الاعتقال ومدّته قصرت أم طالت هي بيد ضابط الاستخبارات الإسرائيلية، فهو الذي يعطي نفسه الحقّ في إصدار أمر الاعتقال. وبورقة تصل إلى المحكمة، يُمدَّد اعتقال أسير سواء أكان المحامي قد قدّم مرافعته أم لا".
وفي ظروف مشابهة نسبياً لما تعرّض له بدرساوي، أمضى الأسير المحرّر عبد الرحمن اشتية فترة اعتقاله الإداري الأخير الذي امتدّ ثمانية أشهر كذلك، بدءاً من لحظة اعتقاله من بيته في قرية سالم شرقي مدينة نابلس. حينها أبلغه ضابط الاحتلال بالمدّة التي سوف يقضيها في الاعتقال، وهو ما كان فعلاً. ويقول اشتية لـ"العربي الجديد": "هذا يؤكد أنّ القرار بيد استخبارات الاحتلال، وما الخضوع لجلسات محاكمة طويلة إلا مسرحية"، مشدّداً على أنّ "الاعتقال الإداري يستهدف نخبة الشعب والمؤثرين فيه لتغييبهم عن الساحة".
ملفات سرية
وتلك المحاكم التي يحاول الاحتلال من خلالها شرعنة قرارات اعتقالاته الإدارية هي محاكم صورية. ويؤكد بدرساوي أنّ "المحكمة شكلية لا قيمة لها، ولا يعرف المحامي أو الأسير ما هي المادة السرية التي يُحاكَم بسببها. لذا أتت أولى خطوات مواجهة هذه السياسة بمقاطعة تلك المحاكم". وكان بدرساوي واحداً من خمسة أسرى بدأوا حملة مقاطعة محاكم الاحتلال قبل نحو أربعة أشهر، بعد صدور قرار تمديد اعتقاله الأخير. فيقول: "تشكّل مقاطعة محاكم الاحتلال إرباكاً لدى إدارة مصلحة سجون الاحتلال، إذ يحدث انقطاع بينها وبين الأسرى. لذلك تلجأ عادة إلى اتخاذ إجراءات عقابية ضدّ الأسرى المقاطعين لمحاكمها، كحرمانهم من الزيارة وتجديد اعتقالهم الإداري".
ويواصل نحو 500 أسير إداري مقاطعتهم محاكم الاحتلال الإسرائيلي منذ الأوّل من يناير/ كانون ثاني 2022، في إطار مواجهتهم سياسة الاعتقال الإداري. ووفق بيانات موثقة، فقد أصدر الاحتلال 1595 أمر اعتقال إدارياً خلال عام 2021.
يُذكر أنّ سلطات الاحتلال وإدارات سجونه تتذرّع بأنّ للمعتقلين الإداريين "ملفات سرية" لا يمكن الكشف عنها مطلقاً، لذا لا يعرف المعتقل مدّة محكوميته ولا التهمة الموجهة إليه ولا موعد الإفراج عنه. وهو ما يجعل معاناة الأسرى كبيرة، مع التلاعب بأوضاعهم النفسية. وفي الغالب، تُجدّد مدّة الاعتقال الإداري أكثر من مرّة للأسير نفسه، وذلك لمدّة ثلاثة أشهر أو ستة أو ثمانية، علماً أنّها قد تصل أحياناً إلى سنة كاملة. وثمّة من أمضى أكثر من أربع سنوات رهن الاعتقال الإداري.
معاناة للأسير وعائلته
في سياق متصل، يوضح الناشط خيري حنون الذي اعتقل إدارياً مرّات عدّة وتذوّق مرارته لـ"العربي الجديد" أنّ "سياسة الاعتقال الإداري تشكّل معاناة للأسير وعائلته ومحيطه، وتؤثّر سلباً على الجميع من جرّاء التلاعب بمصير الأسير وتمديد اعتقاله من دون توجيه أيّ تهمة إليه". ويؤكد حنون أنّه "إذا كان المعتقلون الإداريون قد اتّخذوا قراراً بالتصعيد، فنحن معهم قلباً وقالباً، وعلى الشارع الفلسطيني أن يقف إلى جانبهم وأن تمتلئ الميادين العامة بالجماهير للضغط على الاحتلال الإسرائيلي للرضوخ لمطالبهم، والضغط كذلك على الجهات الرسمية الفلسطينية لدعمهم في كلّ المحافل القانونية وتلك الدولية".
منذ نحو عامَين، راقية أبو عيسى، والدة الأسير الفلسطيني محمود أبو عيسى، محرومة من زيارة ابنها بحجة انتشار فيروس كورونا الجديد. لكنّ تؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "الواقع هو نية الاحتلال معاقبة الأسرى الإداريين وعزلهم عن محيطهم، نظراً إلى موقفهم المشرّف الرافض للاعتقال الإداري"، مشيرة إلى أنّ "الأسرى باتوا يشعرون بأنّهم وحدهم في معركتهم ضدّ الاعتقال الإداري". تضيف أنّ "الدافع وراء إعلان الأسرى الإداريين مقاطعة محاكم الاحتلال هو أنّها محكمة شكلية تأتمر بقرارات جاهزة من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي"، لافتة إلى أنّ "الأسرى ينوون خوض معركة الأمعاء الخاوية حتى تحقيق انتصار مؤزر لهم بإذن الله".
خطوات نحو الإلغاء
وانطلاقاً من تلك المعاناة، صارت لدى المعتقلين الفلسطينيين الإداريين رؤية ووعي جمعيّان لجهة إحداث اختراق في هذا النوع من الاعتقال، بالاعتماد على التجارب السابقة، سواء الإضرابات أو مقاطعة المحاكم. فعملوا على تشكيل ناظم لهم لقيادة المعركة، من خلال "لجنة الأسرى الإداريين في سجون الاحتلال" المدعومة من كلّ شرائح الأسرى والمؤسسات الحقوقية. وبحسب ما يوضح اشتية، فإنّه "يقع على عاتق اللجنة التحرّك في كلّ الأطر الإعلامية والحقوقية المحلية والدولية". ويكشف اشتية أنّ "الخطوة التالية هي الانتقال إلى مربّع أكثر تصعيداً، وهذا أمر معلوم حتى في دوائر الاحتلال واستخباراته، في حال لم تتمّ الاستجابة لمطالبنا برؤية واضحة ومحدّدة لماهيّة الاعتقال الإداري وتحديد سقف زمني له وعدم تركه مفتوحاً".
وسوف تكون الخطوات المتصاعدة وفق اشتية، "منضبطة، وصولاً إلى إعلان الأسرى الإداريين الإضراب المفتوح عن الطعام. وهذا أمر لم يكن سهلاً في السنوات الأخيرة نظراً إلى عوامل كثيرة. لكنّه مع وصول أولئك الأسرى إلى هذه النقطة، فعلى الجميع، مؤسسات ومجتمع ومتضامنين، توفير الدعم والسند لهم سواءً على الصعيد الشعبي أو القانوني". يضيف اشتية أنّ "لدى الحركة الأسيرة مشروعاً كاملاً متكاملاً من الخطوات لمواجهة الاعتقال الإداري في حال واصلت سلطات الاحتلال تعنّتها في ما يتعلق بتنفيذ هذا الاعتقال الإداري"، مشدداً على أنّ "الخطوات في داخل سجون الاحتلال تُصاغ بطريقة جماعية تتجاوز البعد الفصائلي تحت مظلة وطنية جامعة. ونحن نتحدّث عن شريحة تحوي كوادر وقيادات وشخصيات اعتبارية من كلّ الألوان السياسية".
أهمية التضامن مع "الإداريين"
يؤكد رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدورة فارس لـ"العربي الجديد" أهمية الخطوات النضالية للأسرى، "في مواجهة استخبارات الاحتلال وإدارة مصلحة سجون الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى بهدف لفت الأنظار محلياً ودولياً إلى معاناتهم الممتدة لعقود". يضيف فارس: "لذا يتوجّب علينا عدم ترك أولئك الأسرى وحدهم في هذه المعركة. وكلّما ارتفع مستوى المشاركة والتفاعل الشعبي الداعمَين لهم، سوف يزيد الضغط على الطرف الآخر، وصولاً إلى إجباره على الرضوخ لمطالبهم العادلة".
وحول التحرّك على المستوى الدولي في ما يخصّ قضية الاعتقال الإداري، يوضح فارس أنّ "القانون الدولي وضع ضوابط للدول في حال ممارسة هذا النوع من الاعتقال، علماً أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يلتزم على الإطلاق بهذه الضوابط. ومن أجل ذلك، كانت حملات إعلامية ودبلوماسية ووثائق ورسائل وتقارير إلى الجهات الدولية المعنية".
أمّا هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية، فقد دعت كذلك "كل المؤسسات العاملة في مجال الأسرى ووسائل الإعلام والصحافيين والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي وعموم الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والاجتماعية، إلى المشاركة الفاعلة في إطلاق حملة التغريدات الإلكترونية تحت شعار قرارنا حرية"، بهدف إيصال صوت الأسرى الإداريين إلى جميع الساحات والمحافل الدولية. كذلك دعت المؤسسات التي تُعنى بمتابعة شؤون الأسرى إلى ضرورة تفعيل الحراك القانوني على المستوى الدولي لدعم خطوة الأسرى الإداريين المتمثلة في مقاطعة محاكم الاحتلال.
خطوات تصعيدية
تجدر الإشارة إلى أن استمرار الأسرى الإداريين بخطوتهم مقاطعة محاكم الاحتلال، تأتي تزامناً مع تنفيذ الأسرى في كافة سجون الاحتلال منذ ثلاثة أسابيع خطوات تصعيدية متدرجة رفضاً لإجراءات الاحتلال القمعية بحقهم، وسحب إنجازات حققتها الحركة الفلسطينية الأسيرة خلال السنوات الماضية.
ومنذ ثلاثة أسابيع تشتد خطوات الأسرى للرد على إجراءات الاحتلال، ووصلت خطوات الأسرى إلى إغلاق كافة أقسام الأسرى وتنفيذ إضراب عن الطعام ليوم واحد، بينما قمعت قوات الاحتلال الأسرى، ونكلت بهم في سجن "نفحة" وفرضت عليهم عقوبات أخرى.
ويؤكد الأسرى أن سلطات الاحتلال بدأت بالتضييق عليهم وسحب إنجازات الحركة الأسيرة، خاصة بعد تمكن ستة أسرى من انتزاع حريتهم من سجن "جلبوع" عبر نفق حفروه وأعيد اعتقالهم بعد أيام في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، وجرى اتفاق بين إدارة مصلحة السجون والأسرى على إلغاء تلك العقوبات وإعادة منجزات الحركة الأسيرة لكن إدارة مصلحة السجون تنصلت من الاتفاق بضغط أمني وسياسي إسرائيلي.