لا يتجاوز عدد الجثث المنتشلة يومياً من تحت أنقاض وركام ومياه مدينة درنة الليبية الأربعين، في حين لا يتحدث أحد عن مصير آلاف من المفقودين، والذين لم يتم تحديد أعدادهم بعد مرور 10 أيام على وقوع الفاجعة.
وينتظر آلاف الأهالي تجاوب أي جهة رسمية أو متطوعة مع مطالباتهم بالبحث عن مفقوديهم، أو إبلاغهم حال العثور على جثثهم. مساء الاثنين، تظاهر مئات من سكان درنة الغاضبين في الشوارع، وأحرقوا منزل عميد البلدية خلال الليل، وهم يتهمون السلطات بالتقاعس عن صيانة سدين كانا يحميان المدينة، وعدم إجلاء السكان قبل وصول العاصفة.
في أحدث أرقام أعلنها المتحدث باسم الحكومة التابعة لمجلس النواب، عثمان عبد الجليل، مساء الثلاثاء، قال إن عدد الجثث التي تم دفنها بلغ 3351 جثة، وإن التقديرات الرسمية للمفقودين تدور حول 4 آلاف، في المقابل تصل تقديرات غير رسمية بالأعداد إلى قرابة عشرين ألف مفقود.
بدورها، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن 3958 وفاة تم تسجيلها في المستشفيات، لكن حصيلة سابقة للوفيات أعلنها رئيس الهلال الأحمر الليبي أفادت بأن ما لا يقل عن 11300 شخص لقوا حتفهم. بينما ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن ما لا يقل عن 9000 شخص ما زالوا في عداد المفقودين.
نشطاء ليبيون يوثقون أسماء المفقودين عبر صفحات على مواقع التواصل
وإزاء التهاون الرسمي، بدأ نشطاء تسجيل أسماء المفقودين عبر صفحات تم إنشاؤها على مواقع التواصل الاجتماعي، كما بادر آخرون إلى جمع الصور التي تم التقاطها بواسطة كاميرات الهواتف لوجوه بعض من دفنوا خلال الأيام الأولى، ووضعوها على لوحات داخل مدرسة "أم المؤمنين" بحي شيحا في مدينة درنة.
ويبدو ما يتم إعلانه عبر ذوي المفقودين على منصات التواصل الاجتماعي كبيراً مقارنة مع الأرقام الرسمية، فإحدى جهات التوثيق رصدت فقدان 128 عائلة بالكامل في درنة، وأن إحدى الأسر المنكوبة فقدت زهاء 300 شخص من أفرادها، بالإضافة إلى توثيق وفاة وفقدان مئات من العمال غير الليبيين، من بينهم نحو 250 مصرياً، وآخرين من السودان وسورية والأردن وفلسطين، فضلاً عن العمالة الأفريقية غير القانونية التي قلما يسأل عنهم أحد.
وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر أحد المنكوبين صحبة فريق الإنقاذ الروسي، وهو يحدد لهم المواقع التي كانت فيها غرف والديه وأشقائه في المنزل المنهار، علهم يعثرون على جثامينهم، لكن الفريق لم يعثر على شيء، إذ جرفت السيول المنزل بالكامل.
تشتكي أم عزيزة الهنيد من عدم وجود جهة محددة يبلغونها عن مفقوديهم، أو يراجعونها لتلقي الأخبار بشأن مصير ذويهم، وتقول لـ"العربي الجديد"، إنها وزوجها أبلغا مركز شرطة المدينة، ومديرية الأمن، وثلاث غرف تابعة للهلال الأحمر وجهاز الإسعاف والطوارئ عن فقد ولديهما وابنتهما، لكن لم تجب أي جهة على أسئلتهم، وأنهم يترددون على مواقع تجميع الجثث يومياً، كما يترددون يومياً على تلك الجهات للمتابعة.
ويقول المتطوع في فرق الإسعاف والطوارئ، جلال مبارك، إنه شاهد كثيرين من الأهالي يجلسون فوق ركام منازلهم، أو في المكان الذي كانت فيه تلك المنازل قبل الفيضان. "كلما يمر عليهم مسؤول أو فريق إنقاذ يناشدونه المساعدة في البحث تحت الأنقاض". ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن بعض من قابلهم من ذوي المفقودين عبروا عن غضبهم من تصرفات القائمين على مواقع تجميع الجثث، كونهم في بعض الأحيان يسلمون الجثث إلى فرق النقل لدفنها قبل التأكد من أن الأهالي حضروا للتعرف إليها.
لا يزال دفن جثث درنة يحصل من دون أخذ عينات من الحمض النووي
ويضيف مبارك: "الإشكال الأكبر حالياً يتمثل في القدرة على حصر الأعداد، وعدم القدرة على عدم تحديد هويات أعداد كبيرة من الجثث التي نقلت بشكل جماعي للدفن خلال الأيام الثلاثة الأولى، وجرى ذلك من دون أخذ عينة من الحمض النووي، أو حتى صورة للوجه، بسبب عدم تنظيم العمل حينها، إذ لم يكن أمام سلطات المدينة إلا الإسراع بدفن الضحايا خشية تكدس الجثث، وخروج الأمر عن السيطرة".
ورغم تأكيدات المسؤولين السيطرة على عمليات النقل والدفن، إلا أن الدفن من دون أخذ عينات للحمض النووي يبدو أنه لا يزال مستمراً، ووجه أحد المتطوعين في مقابر مرتوبة (35 كيلومترا شرق درنة)، والتي تنقل إليها أغلب الجثث لدفنها، نداء إلى الفرق المسؤولة عن النقل بعدم تسلم الجثث إلا بعد التأكد من أخذ عينات الحمض النووي، وقال إن "أطباء شرعيين قدموا إلى مقبرة مرتوبة، وأبلغوا القائمين على الدفن بأن فرق النقل نقلت أكثر من 52 جثة من دون أخذ عينات للحمض النووي".
ويستنكر الناشط عقيلة الأطرش، عدم تحديد تصريحات المسؤولين المتكررة لمواقع العثور على الجثث التي يتم دفنها، وما إذا وجدت تحت أنقاض المباني أو داخل البحر، ويرى أن الزيادة المحدودة في الأرقام اليومية تؤشر إلى أنها أعداد الجثث التي تنتشل من داخل الأحياء، وأنه لم يبدأ بعد مواكبة الجثث المنتشلة من البحر.
ويؤكد الأطرش لـ"العربي الجديد"، أن السلطات الحكومية لم تبدأ بعد بناء قواعد بيانات خاصة بالبلاغات التي تصل إليها عن المفقودين، والتي يفترض أن تخضع للتحديث كلما يتم التعرف إلى هويات جثث جديدة، ويلفت إلى أن السلطات عليها تجاوز التحديات القائمة في ملف حصر المفقودين، والهيئة العامة للبحث عن المفقودين الحكومية لديها من الخبرة ما يؤهلها للبدء في أخذ عينات أقارب المفقودين لإجراء مقارنات مع الحمض النووي المستخلص من الجثث المجهولة، لكنها لم تفعل ذلك بعد.
وأرسلت الهيئة الرسمية عددا من فرقها إلى مدينة درنة للمشاركة في انتشال الجثث، واكتفت بنشر أرقام حول أعداد الجثث التي تنتشلها الفرق التابعة لها عبر صفحتها على موقع "فيسبوك"، في إطار اتخاذ "كل التدابير الممكنة لتوضيح مصير المفقودين وتسجيل البيانات الخاصة بهم"، كما أعلنت "استقبال البلاغات من أهالي المفقودين".
ويشير أخصائي الطب الشرعي، بلال الحصيني، إلى صعوبات جمة في التعرف إلى الجثث لحلحلة تعقيدات ملف المفقودين، ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن "هناك العديد من المشكلات في مسألة التعرف إلى الجثث بهدف تقليص أعداد المفقودين، ومن بينها أن الكثير من الجثث لم يعد ممكناً التعرف إليها، إذ تعرضت إلى التحلل والتفسخ بحيث تصعب معرفة الوجوه، وأخذ عينات من الحمض النووي، والعمل على مطابقتها أمر يستغرق وقتاً طويلاً نسبياً، كما يجب فتح قبور من تم دفنهم بشكل عشوائي جماعي خلال الأيام الأولى لأخذ عينات منهم، وهؤلاء ليسوا محددين في مواقع أو مجموعات معينة، ما يعني اختلاطهم بمن أخذت منه عينة بالفعل، وفتح مئات القبور مكلف، ويستغرق وقتاً طويلاً في كل الأحوال، ما ينتج عنه استمرار ملف المفقودين مفتوحاً".
ولفت الحصيني إلى تحد آخر ستواجهه السلطات المعنية بالمفقودين، وهو وجود عائلات مفقودة بالكامل، ولا يوجد قريب من الدرجتين الأولى أو الثانية على قيد الحياة من أجل إجراء مقارنات جينية مجدية، ويتوقع أن "إغلاق ملف المفقودين في درنة سيستغرق وقتاً طويلاً، والدليل أن ملف المفقودين في مدينة ترهونة، والمقابر الجماعية فيها لم ينته العمل فيه بعد، ولم تنجز تحاليل مطابقة الحمض النووي الخاصة بالجثث هناك بعد رغم مرور أكثر من 3 سنوات".
ويكشف الناشط خميس الرابطي عن عقبة أخرى قد تعترض طريق جهود التعرف إلى المفقودين، وهي "تسييس الأزمة"، مستنداً إلى الإجراءات التي أعقبت المظاهرة الغاضبة في درنة، والتي تم بعدها قطع الاتصالات عن المدينة، ومطالبة صحافيين بمغادرتها.
ويؤكد الرابطي لـ"العربي الجديد"، أن "استمرار أعمال البحث عن الجثث، ومواصلة تعرف الأهالي إلى ذويهم من دون متابعة إعلامية لن يكون له جدوى كبيرة، ونخشى من تأثير ذلك على آمال العثور على جثث المزيد من المفقودين، وقد تظهر عقبات أخرى مستحدثة في حال زادت المبالغة في تسييس النكبة، في حين قد يفيد تشديد الإجراءات في زيادة الغضب الشعبي، ما يضطر السلطات إلى مضاعفة جهودها، وفي الحالتين ستبقى قضية المفقودين عالقة إلى حين الانتهاء من انتشال الجثث المطمورة تحت ركام المنازل، أو في عمق البحر، أو التي يلفظها الموج على الشواطئ، وربما إلى ما بعد الانتهاء من تحديد هويات من دفنوا قبل تعرف ذويهم إليهم".