يجدد إعلان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الخميس الماضي، توصّل لندن إلى اتفاق مع رواندا لاستقبال طالبي اللجوء المتواجدين في المملكة المتحدة، بحجة درس طلباتهم في "دولة ثالثة"، الأسئلة القديمة والدائمة أيضاً حول ما إذا كانت الدول الأوروبية تسير نحو التحلل من التزاماتها الدولية والقانونية والإنسانية بشأن اتفاقات اللجوء، وأخرى حول التمييز بين أعراق اللاجئين.
وكان "كرم" أوروبا مع اللاجئين الأوكرانيين الفارين من الغزو الروسي لبلدهم حظي بتغطية إيجابية كبيرة على مستوى السياسة والإعلام، لكنه عزز أيضاً النظرة المتوجسة إلى تمييز القارة الأوروبية بين اللاجئين.
وسبق ذلك، تراجع الاتحاد الأوروبي عن سياسات استقبال لاجئي القوارب في المتوسط، والذين غرق نحو 22 ألف منهم منذ عام 2014، واتفق مع ليبيا وغيرها على إعادة هذه القوارب، فاتهمت وكالة حرس الحدود الخارجية لأوروبا (فرونتيكس) وخفر سواحل اليونان، باستخدام العنف ضد اللاجئين، ما فتح نقاشاً حول استهداف سياسات القارة فئات محددة من طالبي اللجوء، أي هؤلاء القادمين من مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا، والعالم الثالث عموماً.
عرض رواندا
بالطبع، ليس اسم رواندا جديداً على صعيد استضافتها ما يشبه معسكر أوروبا للاجئين. فمنذ أن واجه الاتحاد الأوروبي نحو مليوني لاجئ عام 2015، تحركت بعض الحكومات لإيجاد حلول خارج أراضيها، وتفاوضت مع دول في جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط لإقامة معسكرات. وقد رفض عدد من الدول العربية بينها تونس العروض الأوروبية، وكذلك دول إسكندنافية. أما الحكومة الرواندية برئاسة بول كاغامي فعرضت عام 2019 استقبال اللاجئين الساعين إلى نيل اللجوء في القارة الأوروبية، وقدمت مخططاً وصفته بأنه "وسيلة لإنقاذ اللاجئين من خطر الموت".
وكانت الدنمارك سبّاقة في التقاط عرض رواندا الذي لم يندرج فعلياً "ضمن القلب الكبير للشعب الرواندي"، بل ارتبط بأموال ومساعدات، وأجرت محادثات مع رواندا لتكرار نموذج إسرائيل في ترحيل آلاف المهاجرين إليها.
ومطلع عام 2021، تسربت أخبار حصول اتفاق أولي بين كوبنهاغن وكيغالي فانهالت الانتقادات، وبينها تلك التي وجّهتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي اعتبرت أن تحويل رواندا إلى معسكر لترحيل طالبي اللجوء نحو أوروبا يقوض الاتفاقات والالتزامات الدولية.
نموذج أستراليا القديم
فعلياً، تنتهج أستراليا منذ عام 2004 نموذج إرسال اللاجئين إلى معسكرات خارج أراضيها، وتحديداً إلى بابوا غينيا الجديدة وجزيرة ناورو. وأجبرت هذه السياسات اللاجئين على المكوث طويلاً في غينيا الجديدة، فاندلعت أعمال عنف وشغب وإضراب عن الطعام احتجاجاً على "الظروف غير الإنسانية".
وفي عام 2014، قالت رئيسة المفوضية الأسترالية الحقوقية جيليان تريغر إن "السياسات المتشددة للحكومات الأسترالية المتعاقبة تحرم الأطفال من حرية التنقل، وتجعلهم يقضون فترة مهمة من أعمارهم رهن الاعتقال خلف الأسلاك الشائكة، وفي ظروف عصيبة".
وتعترف الأمم المتحدة بأن سياسة احتجاز اللاجئين عنوة بعيداً عن أستراليا شكلت طوال عقدين ماضيين نموذجاً لتحوّل السياسات الغربية المتشددة مع مهاجري ولاجئي الدول الفقيرة التي تعاني من حروب وتراجع حقوقي.
ورغم أن برلمانيين أوروبيين حاولوا عام 2016 الوصول إلى معسكرات أستراليا الخارجية لتجميع اللاجئين من دون حسم مصيرهم لسنوات، لكن ممارسات بلدانهم لم تكن أفضل في هذا الشأن. ففي مارس/آذار 2016 اتفق الاتحاد الأوروبي مع أنقرة على وقف تدفق اللاجئين عبر بحر إيجه، وإعادة استقبال تركيا أصحاب طلبات اللجوء المرفوضة، ما فتح الباب أمام تطبيق اليونان سياسة لجوء أكثر تشدداً تحت مظلة الاتحاد، وتشييد معسكرات لجوء أشبه بمعتقلات خلف الأسلاك وسط ظروف صعبة، ما عرّضها لانتقادات لاذعة من منظمات دولية ومحلية، شملت خصوصاً إخضاع اللاجئين لظروف انتظار تعجيزية قبل حسم مصيرهم تحت سيف التهديد بالترحيل، بحسب بنود الاتفاق التركي- الأوروبي. وأنشأ ذلك أيضاً سوقاً للتهريب وتزوير جوازات سفر، والتي لجأ إليها البعض بعدما مكثوا سنوات بلا أفق لحياتهم في الجزر اليونانية.
واللافت أن أستراليا أعلنت خريف 2021 وقف نموذج معسكرات الاستقبال في أراضي بابوا غينيا الجديدة، مع تراكم النتائج الكارثية والمأساوية، لكن أطرافاً أوروبية تواصل المضي قدماً في مخالفة الاتفاقات الدولية، عبر إنشاء معسكرات على أراضٍ أفريقية بعيداً عن البر الأوروبي، وإرسال أشخاص من أعراق ودول محددة إليها.
وخلال أقل من شهرين، استقبلت أوروبا ملايين اللاجئين الأوكرانيين بترحيب كبير من دون تحديد سقف لعددهم. ووضع ذلك حكوماتها الأكثر تشدداً في موضوع اللاجئين، مثل الدنمارك، في موقف حرج ومربك في محاولتها تبرير ازدواجية تعاملها والإقلاع فجأة عن خطاب تمحور لسنوات حول عدم قدرتها على استقبال المزيد من اللاجئين.
وكان وزير الهجرة الدنماركي ماتياس تسفاي صرح أخيراً بأن بلاده يجب أن تستعد لاستقبال 100 ألف أوكراني، علماً أن حوالى 17 ألفا منهم دخلوا أراضيها في الأسابيع الأخيرة، في مقابل 35 ألف سوري منذ عام 2015.
"جزرة الأموال" الممنوحة لرواندا
وجد الكرم الأوروبي مع اللاجئين من أوكرانيا دعماً في الشارع مثلما حصل في بداية استقبال اللاجئين السوريين بين عامي 2013 و2015، لكنه عكس أيضاً خطاباً جعل حتى القادمين من دول خارج القارة الذين حصلوا على لجوء مؤقت، وبينهم سوريون وعراقيون وأفغان وإيرانيون وأفارقة، غير مرحب بهم. ووضع بعضهم، كما الحال في الدنمارك، على قوائم التسفير بحجة تحسّن الأوضاع في مناطقهم، وبينهم لاجئو العاصمة السورية دمشق وريفها.
ولا يخفى شعور ممثلي حكومة يسار الوسط في الدنمارك بارتياح كبير من إعلان بريطانيا إنشاء معسكرات استقبال في رواندا. ورحب تيسفاي، الذي كان وقّع اتفاق إطار مع رواندا في ربيع العام الماضي، بالاتفاق البريطاني - الرواندي.
ويبدو أن خطاب أوروبا الخاص بـ"منع تهريب البشر" يسوّق لما يشبه التحلل من التزاماتها القانونية الدولية بشأن اللجوء وتقديم الحماية لطالبيها. ومثلما اعتبر جونسون أن تزايد "الهجرة السرية" عبر قوارب عابري بحر المانش يشكل سبباً إضافياً لإبرام اتفاق معسكرات اللاجئين مع رواندا، استطاعت الطبقة السياسية في أكثر من دولة أوروبية إلى حد ما تسويق "ضرورة تشديد القوانين". ولوحظ في الأيام الماضية، تأييد حزب الشعب الاشتراكي في الدنمارك التشدد، بحجة "وجود مشاكل في الدمج".
أيضاً، اعتبر تيسفاي أن "المعسكرات في رواندا تخفف الكلفة الاقتصادية الضخمة لمجتمعنا الذي يحتضن اللاجئين، ما يعني أن جزرة الأموال الممنوحة لرواندا مبررة لحل مشكلة الحفاظ على دولة الرفاهية والتماسك الثقافي".
وفي الاتفاق المعلن أخيراً بين لندن وكيغالي، ستقدم الحكومة البريطانية نحو 157 مليون دولار "لدمج المهاجرين" في رواندا، ما يعني عملياً أنه لا يستهدف إنشاء مراكز استقبال لدرس الطلبات، بل محاولة تحويل رواندا، وربما غيرها عبر الحوافز المالية، إلى ما يشبه ملاذاً أوروبياً للتهرب من القوانين والالتزامات الدولية بشأن معاهدات اللجوء.
تقسيم الناس
ويرى منتقدون أن سياسة الازدواجية الأوروبية في التعامل مع اللاجئين بناء على العرق والأصل، توجه رسائل خاطئة وخطيرة لأجيال مواطنيها من أصول مهاجرة، تجعلهم يشعرون بأنهم يحظون بترحيب أقل في المواطنة مقارنة بغيرهم المنتمين إلى ثقافات أقرب إلى القارة، علماً أن حكومات، ليس فقط تلك القريبة من النهج الشعبوي في شرق القارة ووسطها، مثل المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وغيرها، تتحدث منذ عام 2015 عن وجود مؤامرة على الثقافة الأوروبية البيضاء، وقيم المجتمعات. وسبق أن تحدث رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن أن "القادمين من غرب أفريقيا والشرق الأوسط يتطلبون بذل جهد مضاعف 5 مرات مقارنة بدمج حرفيين من بولندا".
وإذا كان الخطاب اليميني الشعبوي يقوم على تقسيم الناس وفقاً لخلفياتهم الثقافية عبر معادلة مستحقين أو غير مستحقين للجوء، فإن تبدل مواقف يسار الوسط في عدد من دول القارة بات يثير الجدل، إذ يتهمه خصومه خصوصاً في اليسار، بأنه "يميل إلى الخطاب الشعبوي بهدف تحقيق مكاسب انتخابية".
ويقول رئيس لجنة الهجرة والدمج في البرلمان راسموس ستوكلوند الذي ينتمي إلى يسار الوسط الحاكم، إن "إقامة معسكرات في رواندا ستسمح بأن تقدم الدنمارك مساعدة لعدد أكبر من الناس بدلاً من استقبال اللاجئين الأثرياء القادرين على دفع أموال لمهربين، ونصفهم لا يستحقون اللجوء، ويكلفون البلد موازنات إيواء وطعام".
"جرعات هدايا"
ولا بدّ من الإشارة إلى أنه في موازاة مفاوضات الدانمارك مع رواندا، تدفق نحو 250 ألف لقاح كورونا إلى كيغالي "كجرعات هدايا"، في سياق ما يطلق عليه المنتقدون رشوة لاستقبال المرحّلين قسرياً من طالبي اللجوء في أوروبا.
وليست سياسات تقديم رشاوى لرواندا التي لا تملك سجلاً حقوقياً ناصعاً، جديدة، إذ سبق الاحتلال الإسرائيلي التوجه البريطاني والدنماركي بسنوات، عبر ترحيل آلاف طالبي اللجوء الأفارقة سراً إلى هذا البلد، خصوصاً ممن حضروا قبل إقامة السياج الضخم مع مصر عام 2013.
وتورد تقارير عن "الدولة الثالثة" التي استقبلت لاجئين رحلتهم إسرائيل، أن رواندا وأوغندا حصلتا على حوالي 5 آلاف دولار عن كل شخص استقبلتاه، ومساعدات دفاعية وزراعية. ويكشف تقرير موقع "ميدل إيست مونيتور" أن 4 آلاف طالب لجوء أرسلوا إلى رواندا بين عامي 2014 و2017.