الموقع المتراجع للتعليم في السياسات والإنفاق الحكومي ينعكس أكثر ما ينعكس على أوضاع الفئات الأكثر هشاشة في المجتمعات العربية، طالما أن هذه الفئات تعتمد على نحو شبه كلي على ما تحصل عليه من فرص من خلال القطاع العام، بما هو مدارس أكاديمية ومهنية وجامعات تتقاضى من طلابها رسوماً رمزية بالقياس إلى كلفته في القطاع الخاص. والأخير بدوره يتفرع إلى فرعين: أولهما مؤسسات النخبة التي تتقاضى بدلات أقساط عالية، ويقصدها أبناء الطبقات الميسورة، وتتميز بمستوى عال من الإعداد للجهاز التعليمي، وتجهيزات تقنية متقدمة للمساعدة على تقديم وإيصال المعلومات. وهذه واكبت الأزمة دون عثرات ضخمة، باعتبار أن التعاطي مع تكنولوجيا التعليم سابق على ظهور الوباء بسنوات عدة، لذلك عندما جرى الانتقال لهذا النوع من التعليم، لم يكن الأمر مفاجئاً لا للمعلمين/ المعلمات ولا للتلامذة والطلاب والأهل.
أما الفرع الثاني فهو القطاع الأهلي الذي يعتمد في جزء من موازناته على ما تقدمه له وزارات التربية من إعانات، مع إضافة محدودة على حساب الأهل، لا تصل في أي حال من الأحوال إلى المبالغ التي يدفعها الأهل للقطاع الخاص النخبوي. بالطبع هذا القطاع نشأ واستمر مستفيداً من عجز المدرسة الرسمية والقطاع العام عن تلبية الحاجات المتصاعدة في المناطق الريفية، وفي الأحياء المدينية المكتظة. وغالباً ما يتوجه إليه أبناء وبنات هذه الأحياء للدراسة، التي لا تفتح مجالاً واسعاً للتقدم في العملية التعلمية إلى مراحلها العليا. ومن يفعل يكون مصبه الجامعات الرسمية دون الخاصة المرتفعة الأقساط.
والمعروف أن تفاعل الأزمة السياسية – الأمنية – الصحية، وما رافقه من انهيار مداخيل الآباء ضغط أكثر ما ضغط على الفئات الأكثر حرماناً، ما أدى إلى تأثيرات مدمرة على الإنتاجية والدخل وعملية التعافي في المستقبل. وقد أصاب مثل هذا الوضع فئتين على نحو واضح هما الأطفال والشباب الذين خسروا فرصاً تعليمية لا مجال لتعويضها ضمن نسق السياسات المعتمدة في قطاع التعليم وسواه من قطاعات. فالأطفال من أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى لم يكونوا على استعداد للتعليم عن بُعد خلال الإقفال المتكرر للمدارس، نتيجة فقدانهم التجهيزات المواكبة لهذا النوع، بالنظر إلى ظروف حياتهم، وما لا تملكه منازل ذويهم من تجهيزات إلكترونية لا يستطيعون الحصول عليها كونها مرتفعة الثمن بالقياس إلى دخول معيليهم.
لكن النتائج تتجاوز هذه الظاهرة. فقد رصدت التقارير ما هو أفدح من ذلك لجهة عودة الفجوة بين تعليم الذكور وتعليم الإناث. وهي ظاهرة كادت تختفي خلال العقود المنصرمة، حيث دفعت الأسر ببناتها إلى المدارس والجامعات. مع الأزمة المركبة وجرّاء عجز الأسر عن تعليم أبنائها فضلت تخصيص الذكور بالتعليم، بينما أبقت الفتيات للمساعدة في الأعمال المنزلية أو الحقلية في المجتمعات الزراعية والرعوية. علماً أن السنوات السابقة أظهرت غلبة أعداد الفتيات في الجامعات على الذكور. على أن الأمر تجاوز التمييز الجندري ، إذ أصاب ذوي الحاجات الخاصة الذين شرعت بعض الدول والمؤسسات التعليمية في عملية دمجهم ضمن الصفوف النظامية، فتراجعت عن دورها، وألقت عبء الأزمة على ذويهم وبعض الجمعيات لتدبير أمورهم. وهو ما كان بالإجمال مردوده سلبياً لجهة معاناة التمييز والتهميش، ترافق ذلك مع عمالة عشوائية وعنف وزواج مبكر وتفشي المخدرات وغيرها من الآفات، أصابت هذا الجيل وأسره والاقتصادات الوطنية والعالمية على حد سواء.
(باحث وأكاديمي)