يومان قاسيان عاشتهما مناطق الشمال اللبناني، فالبكاء يلف منازل طرابلس وعكار حيث تسكن عائلات ضحايا "مركب الموت" الغارق قبالة سواحل طرطوس السورية، خلال رحلته إلى أوروبا، إذ لا تفارق حكايات الموت والقهر الألسن، كما لا تتوقف الألسن عن الدعاء لأرواح من رحلوا والتصويب على ساسة المدينة والبلاد.
طرابلس والفواجع التي لا تتوقف
في دارها التي يلفّها ظلام انقطاع التيار الكهربائي في منطقة باب الرمل في طرابلس تجلس أم مصطفى مستو المفجوعة بموت ولدها وأحفادها الثلاثة، فيما استطاعت زوجته وطفلها النجاة، ووسط نساء يتشحن بالسواد ويبكين تقول الأم المكلومة إنها لا تزال في صدمة ولم تتقبّل الأمر حتى هذه اللحظة. ترفع الأم يدها إلى السماء ولا يتوقف لسانها عن الدعاء على رموز السياسة والسلطة، بدءاً من رئيس البلاد وليس انتهاء برئيس الحكومة، وتقول "هم من دفعوا بنا وبأولادنا نحو الموت المحتم".
تروي الأم أن ولدها الغارق، الذي لم يكمل 35 عاماً من عمره، ويعمل سائق أجرة، دفعه اليأس والذل اللذان يعيشهما أي شاب فقير لا طاقة له على الحياة وسط متغيرات كثيرة إلى الهجرة.
مصطفى قرّر بيع كل ما يملك لدفع 15 ألف دولار لمهرب بشر يقوم بتأمين رحلات الموت عبر شواطئ الشمال اللبناني
تشير الأم المفجوعة إلى أن مصطفى قرّر بيع كل ما يملك لدفع 15 ألف دولار لمهرب بشر يقوم بتأمين رحلات الموت عبر شواطئ الشمال اللبناني، ففقيدها كان يرى في الهجرة إلى أوروبا خشبة خلاص له ولأطفاله الذين لا قدرة له على إطعامهم وتعليمهم، وعلى الرغم من محاولة الأم منع ولدها من الهجرة إلا أنها استفاقت على خبر غرقه.
أمّا خالته أم محمود فترى مصطفى ضحية فخ المهربين الذين أقنعوه بسلامة المركب وقدرته على الوصول إلى السواحل الإيطالية للمرة الرابعة على التوالي من دون أن ييأس من الهروب.
اليأس والخوف على المصير
على باب منزل أم مصطفى يقف جارهم عزام ناغي الذي يقول إنّ كل أبناء المنطقة يريدون الهروب عبر البحر، خوفاً من المجهول الذي ينتظرهم ليل نهار، ويروي عزام قصة هي الأخطر على الإطلاق في ظل ما تعيشه البلاد من أزمات متنقلة، إذ يشير إلى أن ما يدفع الشباب للهجرة السرية ليست الأحوال الاقتصادية فقط، وإنما أيضاً خوف الشباب الذين تبلغ أعمارهم ما بين 20 إلى 40 عاماً من تكرار سيناريوهات استغلالهم في حوادث أمنية كلما اقتربت البلاد من استحقاقات كبيرة واعتبارهم صندوق بريد بين القوى المتصارعة.
يؤكد الشاب الطرابلسي أن مدينته باتت تنام وتصحو على أخبار إبحار قوارب الهجرة السرية من سواحل طرابلس وعكار نحو دول أوروبا، وتحديداً إيطاليا، بوتيرة شبه يومية، وتضم لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، وأنه يومياً يفتقد مجموعة من معارفه ليفاجأ بأنهم ركبوا رحلات الهجرة.
أزمات لا تنتهي
يؤكد ما سبق المحامي محمد صبلوح الذي يوضح لـ"العربي الجديد" وجود علامات استفهام كبيرة حول أدوار تُحضّر للمدينة الأفقر في لبنان، والتي ما تلبث أن تخرج من أزمة حتى يجرى إدخالها في أخرى، مذكراً بأزمة التحاق الشبان من طرابلس والشمال بخلايا داعش في العراق، والتي تبيّن لاحقاً أنها جرت نتيجة ضغط أجهزة أمنية على مجموعة شبان، قائلاً "الهجرة هروب من أي استغلال محتمل".
ويؤكد أن حالة الفقر والحرمان التي تعيشها المدينة بشكل ممنهج ودون أي رعاية من مؤسسات الدولة تجعل الشبان أمام خيارات الهجرة في ظل استعصاء الحلول الاقتصادية والاجتماعية، مشيراً إلى أن الأزمة أكبر من قدرات المؤسسات غير الحكومية، وتحتاج حلول الأزمة إلى استنفار كبير من قبل كل أجهزة الدولة اللبنانية.
الفاجعة في البارد
بالتوازي يؤكد محمد اشتية، وهو من سكان مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين لـ"العربي الجديد"، أنّ أكثر من 40 فلسطينياً من المخيم الذي يقع في محافظة عكار كانوا على متن هذا القارب، فيما بلغ عدد الناجين منهم أربعة أشخاص، وهم: عبد الله السعيد وإبراهيم شكري المنصور ومحمد إسماعيل وزوجته، مشيراً إلى أن ستة من عائلة آل حسن؛ وهم الأب والأم والأولاد الأربعة لا يزالون مجهولي المصير، إضافة إلى آخرين من آل عبد العال وعمر والوحيد والزين والسعيد ومنصور وحماد.
ويشير اشتية إلى أنّ هؤلاء دفعوا حوالي ستة آلاف دولار عن كل فرد للمهرّب، ويؤكد الشاب الفلسطيني أن المخيم يشهد منذ سنة هجرة كبيرة، في الحالة الاقتصادية السيئة التي لا يوجد أفق حقيقي لحلها.
تساؤلات وعلامات استفهام
وعن غضّ النظر الأمني تجاه المهربين يشير المحامي محمد صبلوح لـ"العربي الجديد" إلى أن رحلات الهجرة والاتجار بالبشر باتت معلومة لكل الأطراف السياسية والأمنية في البلاد، وأن سكان القرى والمدن الشمالية باتوا يعلمون أسماء المهربين وأرقام هواتفهم، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول الموضوع، في ظل إطلاق سراح المهربين بعد أيام من توقيفهم من قبل الأجهزة الأمنية.
في المقابل تشير الصحافية جنى الدهيبي لـ"العربي الجديد" إلى أن السوريين الذين يتوجهون خلسة إلى شمال لبنان للهجرة بالقوارب إلى أوروبا أغلبهم من مناطق "الجنوب السوري" القريبة للحدود اللبنانية، مثل درعا، وكذلك من ريف دمشق وحمص، بحسب روايات رصدتها.
ووفق الدهيبي فإن هؤلاء ينجذبون للهجرة إلى أوروبا عبر لبنان وليس تركيا. وثمة مهاجرون سوريون، وفقها، يقولون إنّ العبور من الشمال السوري إلى تركيا يتطلب مبالغ كبيرة بالدولار، تضاف إلى مبالغ ضخمة يسددونها للمهربين بشمال غرب تركيا للعبور نحو أوروبا إما بحراً أو براً أو عبر النهر.