تتعدى اللاإنسانية كلّ الحدود في تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع سكان غزة. مرضى غزيّون كُثر حالتهم حرجة يمنعون منذ سنوات من مغادرة القطاع مع مرافقين يرفض الاحتلال منحهم تصاريح. ويبدو أن لا وسيلة لوقف "آلة القتل" هذه.
في 19 مايو/ أيار الماضي، فقد فاخر الكرد نجله عمرو البالغ 15 عاماً، بعدما رفض الاحتلال الإسرائيلي أن يرافقه في بداية رحلة علاج شملت مستشفيات عدة في الضفة الغربية. كان الوقت ينفد، وكان عمرو يتألم كثيراً فأجبرت الأسرة على البحث عن شخص من العائلة لمرافقته. لكنّ الاحتلال الإسرائيلي ردّ على هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية في غزة برفض كلّ أسماء الأقارب التي قدمتها العائلة لمرافقة عمرو. هكذا اضطرت عائلة عمرو، وهو الأكبر بين أشقائه، إلى البحث عمّن يرافقه في رحلته العلاجية من خارج الأسرة بناءً على طلب من السلطات الإسرائيلية نفسها والتي رفضت لاحقاً أكثر من 30 شخصاً من خارج هذه الأسرة. ثم أبلغت هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية الأسرة في غزة أن إسرائيل رفضت أيضاً عمرو المريض نفسه.
يقول الكرد لـ "العربي الجديد": "يرفض الاحتلال الإسرائيلي مرافقة أفراد من عائلات مرضى في غزة يريدون الخضوع لعلاج خارجها، لأنها يعتبر أن هذه العائلات تضم أفراداً ينتمون إلى حركة حماس، ما يعني أنها تعاقب هذه العائلات من منظار سياسي عبر عدم منح أفرادها تصاريح انتقال وزيارات. كما أنّها تخضعهم إلى أساليب ابتزاز تشمل أيضاً طرح مجموعة من الأسئلة عليهم خلال خروجهم من معبر بيت حانون (إيريز). وفي نهاية المطاف، راح ابني ضحية، فهو صغير السن، ولم يرتكب أي ذنب، واستوفى كل شروط الانتقال من غزة".
عانى عمرو من مرض في الدماغ، واحتاج إلى الخضوع لتشخيص وتلقي علاج عاجل خارج قطاع غزة بسبب ضعف الإمكانات الطبية في مستشفياتها. وحصل في 9 مايو/ أيار على تحويل مالي عاجل وتغطية من وزارة الصحة الفلسطينية لدخول مستشفى "الأهلي التخصصي" في مدينة الخليل في الضفة الغربية. لكنّ انتظار الرحلة جعله يتوفى في مستشفى "الشفاء" بغزة.
في مايو/ أيار الماضي، توفي 3 أشخاص منعت السلطات الإسرائيلية سفرهم من معبر بيت حانون (إيريز)، بسبب تكثيفها الحصار على سكان غزة ورفضها إعطاء تصاريح قبل عدوانها الأخير وبعده. وأكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في تقرير أصدره في الثاني من يونيو/ حزيران الماضي أنّ حوالى 8700 مصاب بالسرطان مدرجون على لائحة المرضى الممنوعين حالياً من السفر من أجل تلقي العلاج أو استكماله في مستشفيات خارج قطاع غزة. وأشار إلى أنّ لا بديل علاجياً مكتملاً وملائماً لهؤلاء في مستشفيات القطاع، في حين تتطلب أوضاعهم الصحية الحصول على جرعات كيميائية وعلاج إشعاعي في شكل دوري. واعتبر أنّ السلطات الإسرائيلية تتعمد جعل المرضى عاجزين عن تدبير مرافقين لهم عبر اشتراط حصولهم على موافقة أمنية.
وفي حال شادي إبراهيم (58 عاماً) الذي يعاني من ورم في الدماغ، فهو يحتاج اليوم إلى نقل عاجل لتشخيص مقدار تغلغل الكتل السرطانية، وإمكان إجراء عملية لاستئصال الورم. وهو ينتظر منذ أكثر من شهر الحصول على موافقة لأحد مرافقيه، نظراً إلى عدم قدرته على التنقل بسهولة، وحاجته إلى مساعدة في التنقل. لكنّ الإسرائيليين رفضوا حتى الآن أكثر من 12 من أفراد عائلته، وخارجها. وتمثل الخيار الأخير لإبراهيم في مرافقة زوجته له التي قدمت طلباً للحصول على تصريح دخول في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، لكن السلطات الإسرائيلية رفضته، ما جعل جاراً له يكبره بأربعة أعوام يقدم طلباً لمرافقته، علماً أنّ السلطات الإسرائيلية تشترط إحضار الغزيين مرافقاً يتجاوز الـ 45 عاماً، لكن هؤلاء يخضعون أيضاً لفحص أمني قد يمنع دخولهم.
يقول إبراهيم لـ"العربي الجديد": "يبدأ الاستفزاز الإسرائيلي بفتح الملف الأمني للمرضى نفسهم والذين يمنع عدد كبير منهم من المغادرة بلا رحمة إنسانية. ثم يأتي دور المرافقين. وقد سألت هيئة الشؤون المدنية في غزة إذا كنت أستطيع مطالبة أحد سكان الضفة الغربية بمرافقتي لساعات قليلة فأبلغوني أنّ الاحتلال الإسرائيلي يرفض ذلك، ما يعني أنّنا نعاقب بكلّ الوسائل والأساليب لأننا نعيش في غزة، وأنّ إسرائيل تريد قتلنا بأي طريقة. وأنا الآن أنتظر الموافقة على مرافق، في حين لم يبقَ أمامي إلّا خيار اصطحاب مسن".
ويشعر إبراهيم بآلام متزايدة بمرور الوقت، من دون أن يستطيع فعل شيء، لذا يعتبر أنّ رفض المرافقين "بات وسيلة قتل بالنسبة للإسرائيليين". ويشير إلى وفاة مريض في الغرفة ذاتها خلال تلقيه العلاج في مستشفى "الأوروبي" جنوبي قطاع غزة، في بداية العدوان الإسرائيلي الأخير، بعدما انتظر بلا جدوى شهراً ونصف الشهر للحصول على موافقة لمرافقه "لذا أشعر بقلق عارم من أن يتكرر هذا الأمر معي".
ليست قصة رفض الإسرائيليين لمرافقي المرضى جديدة، فهي تمارسها على الغزيين منذ خمسة أعوام. لكنّ قصة الطفلة عائشة اللولو، التي توفيت قبل عامين حين كانت في الخامسة من العمر كانت مأساوية لعائلها، إذ توفيت بعد 50 يوماً فقط من تشخيص إصابتها بسرطان المخ، من دون أن يوجد أيّ مرافق من أفراد أسرتها معها. وسمح الاحتلال الإسرائيلي بأن تجري الطفلة عائشة عملية جراحية في المخ وحيدة في المستشفى مع سيدة تطوّعت لمرافقتها في غزة، بعدما لم تقبل طلبات 9 من أفراد أسرتها، وبينهم والدتها التي تقدمت بطلبين لنيل تصريح. وواجهت عائشة حالة نفسية حادة حسب ما أخبر الأطباء أسرتها، علماً أنّ طبيب المستشفى طلب إرسال أحد أفراد أسرتها عاجلاً لمحاولة تحسين وضعها. لكنّ الاحتلال لم يوافق على أيّ منهم، قبل أن تسوء حالتها الصحية والنفسية وتعود إلى غزة مع مضاعفات العملية، وتتوفى في 17 مايو/ أيار 2019.
وفيما اعتبر الباحث الحقوقي أحمد محسن حينها أنّ قصة عائشة اللولو "ستتكرر مع أشخاص آخرين، إذا لم تلتفت جهات دولية لواقع حقوق المرضى في غزة". فهو يرى اليوم في حديثه لـ"العربي الجديد" أنّ "المنظور الإسرائيلي لحقوق الغزيين في الحصول على علاج ومأكل ومشرب بات ذا طابع سياسي بحت. وطوال سنوات الحصار تعامل الإسرائيليون مع ملف المرضى باعتباره وسيلة ابتزاز للحصول على معلومات أمنية، ثم قلّصوا عدد المرضى، وهم الآن يزيدون آلامهم الكبيرة عبر رفض طلبات قبول عدة طلبات لمرافقين مرضى، وبينهم أيضاً مريضة قصدت مستشفى رام الله الحكومي بمفردها مطلع يوليو/ تموز الجاري، بلا مرافق بعد ردّ خمسة طلبات بينها لأبنائها".